يمثل الإمارات في بينالي البندقية 2024.. عبدالله السعدي: رحلاتي في الطبيعة مصدر للإلهام والتأمل
يمثل الفنان عبدالله السعدي الإمارات في بينالي البندقية للفنون 2024، الذي ينطلق في شهر إبريل 2024 في دورته الـ60، وتضم نسخة هذا العام، وعنوانها «الأجانب في كل مكان»، أجنحة من 90 دولة.
هذا الفنان، بما يمثله من رؤى فنية، ينتمي إلى جيل من الفنانين الذين أرسوا لـ«الفن المفاهيمي»، حيث كان السعدي جزءاً من هذا التغيير في تأسيس الحركة التشكيلية الحديثة مع مجموعة من الفنانين، أو ما سمّيت بمجموعة «الخمسة» للفن المفاهيمي، وشملت عبدالله السعدي، حسن شريف (ويعتبر رائد الفن المفاهيمي في الإمارات)، محمد أحمد إبراهيم، حسين شريف، ومحمد كاظم.
في بينالي البندقية 2024، يقدم السعدي ثمانية أعمال فنية قام بإنتاجها خلال رحلاته في الطبيعة، وكان القيّم الفني طارق أبو الفتوح وضع إطاراً، فكرياً وفنياً، للمعرض تحت عنوان «عبدالله السعدي: أماكن للذاكرة.. أماكن للنسيان».
ترتكز ممارسات السعدي الفنية على مجموعة متنوعة من التقنيات، بما في ذلك الرسم، والرسم التعبيري والنحت، حيث يرسم على الكانفا، وعلى الصخور، ويكتب يومياته منذ 40 عاماً يومياً، ويتواصل مع الطبيعة عبر رحلات مختلفة يقوم بها بمفرده، برفقة كتاب يتمحور حول موضوع محدّد، أو برفقة حيوانات أليفة، ومنها رحلات يعنونها تبعاً لظروفها، ومنها «رحلة قمرقند»، وقام بها في المنطقة الشرقية بصحبة كلب وحمار، ورحلة «الخرير والحرير» حيث بقي لسبعة أيام في وادي مدحاء، في منطقة الحورة الجبلية، وهو يدوّن يومياته وعوالم تواصله مع البيئة حوله، ورصد مفاهيم وجودية وفلسفية واستكشاف، وتجسّد أعماله المتنوعة العلاقة بين الأفراد وبيئتهم الطبيعية والاجتماعية، إلى رحلة «الغجري» ورحلة «الصوفي».
وفي جلسة حوارية «غير رسمية» و«من القلب للقلب» على هامش فعاليات معرض «آرت دبي»، توقف القيّم الفني طارق أبو الفتوح، وهو القيّم لمعرض السعدي الفردي الذي يمثل الإمارات في بينالي البندقية، وسبق وعمل معه في إكسبو دبي 2020، عند الكثير من الأسئلة التي تحاصر الفنان عاطفياً، وتعيده إلى أمكنة الذاكرة والطفولة والشباب.
بدايات الفنان عبدالله السعدي
نشأ السعدي في خورفكان وترعرع هناك «كنت في المرحلة الثانوية، وكان عندي مرسم في البيت، ثم ما لبثت أن استأجرت منزلاً ليكون مرسمي الخاص في منطقة الشرق. هذه كانت البداية باختصار».
كان إمام المسجد هو صاحب البيت الذي حوّله السعدي إلى مرسم، وكان يزوّد البيت بالكهرباء من المسجد، وعندما يحين وقت الأذان ينقطع التيار الكهربائي عن المرسم، لكون إمام المسجد كان يرغب في أن يؤدي السعدي الصلاة، وكان ينزع القابس الكهربائي ولا يعيده، ما يضطر السعدي ليقصد المسجد، ويصلّي ويعيد القابس إلى مكانه.
ثمة حكايات واكتشافات يرصدها القيمّ الفني طارق أبو الفتوح عبر الإطلالة على مسقط رأس السعدي، وهي خورفكان التي تتسم ببيئة خاصة، أطلّت بالفنان على عوالم مختلفة، والتماس مع الطبيعة بطريقة خلاقة.
لم يكن السعدي يقوم بخربشاته على الجدران، يروي وهو يستعيد زمن البدايات «سبق لأخي الكبير أن رسم بطّتين متداخلتين على جدار بيت جيراننا، وعندما رأيت الرسمة، ظلت عالقة في ذهني لفترة طويلة».
درس السعدي في منطقة مسافي بمدرسة داخلية، وكان يزور عائلته في نهاية الأسبوع، ومن بعدها انتقل إلى الدراسة في الشارقة في سكن داخلي، وهناك تعرف بالصدفة إلى جمعية الفنانين التشكيليين، عندما كان يمشي من سكنه الداخلي إلى الطبق الطائر، ومنها إلى دوار الكويت، حيث «صادفت مركز جمعية الفنانين التشكيليين، ومن هناك تعرفت إلى حسن شريف، ومحمد كاظم، وغيرهما من الزملاء الذين بقينا على تواصل ولقاءات بين فترة، وأخرى».
خرجت تلك المجموعة من الفنانين عن الإطار التقليدي، والتوجه إلى «الفن المفاهيمي»، وهي مرحلة أثرت في تطور الحركة الفنية التشكيلية، وكان السعدي جزءاً منها، كما يشير القيّم الفني طارق أبو الفتوح.
أبو الفتوح يلفت إلى ممارسة فنية متنوعة عند السعدي، من رسم ونحت وكتابة يوميات ورحلات في الطبيعة ومنحوتات، منها «النعال الحجرية»، واختراعه لأبجديات جديدة يعزوها إلى تأثير دراسة السعدي في اليابان، وواكبها مشروع «رسائل أمي» الذي استمر لمدة 15 عاماً.
القيّم الفني طارق أبو الفتوح
حكاية السعدي مع مشروع «رسائل أمي»
في هذا السياق، يسرد السعدي حكايته مع «رسائل أمي»، وهي حكاية نابضة بالإحساس وبالامتنان لتفاصيل الأمومة.
يوضح السعدي «عندما كنت في مرسمي الذي استأجرته، كانت أمي تزورني، وكانت تترك لي «علامة» منها، عود صغير، أو غصن شجرة، أو حجر صغير، وما شابه، وتعلّقها على باب المنزل كرسالة على قدومها، وعدم تواجده، فما كان مني إلا أن جمعت هذه الأشياء منذ بداية عام 1998 وبدأت أستخرج منها بعض الحروف، وتطورت إلى رسومات لهذه الرسائل باستخدام «العلامات» التي تركتها الوالدة».
أما يوميّاته، فقد بدأ السعدي بكتابتها في الصف الثاني من المرحلة الثانوية، ويعود الفضل إلى «المدرس الذي شجعنا على هذا المنهج، ودأبت على هذه العادة حتى عام 2015 وأنا أكتب على دفاتر، ومن بداية 2016 تحولت إلى كتابة اليوميات على قماش ووضعها في علب معدنية، ومع مرور السنوات تطورت إلى أن باشرت بإنجاز «الفورمات» الخاصة بكتابة اليوميات من الألف إلى الياء».
هناك ما يقارب 1500 إلى 1600 ملف، و150 دفتراً كلها ترصد يوميات السعدي، وتواكب رحلاته وأسفاره ورؤاه، ونظرته للعالم، والطبيعة، والبيئة، والأفراد، وعلاقته بالحيوانات وبالكتاب، وغيرها الكثير.
صورة التقطها رومان مينسينغ للفنان السعدي في مشغله الخاص
يسعى الجناح الوطني لدولة الإمارات في بينالي البندقية إلى تسليط الضوء على القصص غير المروية حول الفنون والعمارة في دولة الإمارات العربية المتحدة، ويقدم السعدي خلاله معرضه الفردي مترجماً رؤاه، وبانياً جسر تواصل مع الثقافات التي يستقطبها البينالي.
وسبق للفنان عبدالله السعدي أن شارك في العديد من المعارض الجماعية والفردية، محلياً ودولياً. في عام 2021، أنجز عملاً من الأعمال الدائمة في إطار «برنامج الفنون البصرية في الأماكن العامة» لإكسبو دبي 2020، وهو يستكمل طرح رؤاه الفنية والقبض على ذاكرة المكان والزمان خلال مشاركته في بينالي البندقية، حيث تجسد أعماله جزءاً من تواصله مع الطبيعة، والتي تعتبر مصدر إلهام للفنانين، وللجمهور الذي يواكب تلك الأعمال وأبعادها.
فالطبيعة تركت أثرها الواضح في إنتاجات السعدي عبر تجسيده رؤاه بطرق غير مألوفة، فكانت الطبيعة مصدر إلهامه، والمواد المتوافرة فيها هي العناصر أو الخامات التي يستخدمها لإنشاء أعماله الفنية، ومنها الحجارة والصخور، وغيرها.
كما يتمثل البعد المستدام في أعماله عبر استثمار كل المواد في الطبيعة، وإعادة تدويرها، فنياً وجمالياً، وهذا ما يقود إلى التفاعل مع البيئة وتوظيف الأشياء التي يتم العثور عليها في أعماله التركيبية كباب من أبواب الإبداع.
* تصوير: السيد رمضان ومن المصدر