كيف يمكن للموت أن يخطف كل تلك البراءة، ويسرق الأحلام من عيون أطفال غزة؟
فالمجزرة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية مؤخراً، في شمال غرب رفح، وأسفرت عن عدد من الضحايا الأبرياء لم تكن الأخيرة، إذ حصدت آلة الموت الإسرائيلية حتى تاريخه، نحو 36 ألف قتيل، بينهم ما يزيد على 14 ألف طفل، وفق تقرير للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
فالخيم باتت أهدافاً لإسرائيل لتحويل أجساد الأطفال إلى أشلاء، ليختصر الموت حياتهم، ويدمّر القصف ألعابهم، وتُنثر مهشّمة في طرقات وشوارع غزة، وعلى أسطح المنازل المدمّرة.. حتى قنينة الحليب ملطّخة بالدم، و«دباديبهم»، وأحذيتهم، والكرة، والدراجة الهوائية، والسكوتر، وعرائس الباربي، وأقلامهم، ودفاترهم، وكتبهم، وقصصهم، وحقائبهم.. كلها تلطخت بالدم، وباتت صوراً تترجم صراخهم، قتْلهم بدم بارد، استغاثاتهم، يُتمهم، اغتيال طفولتهم.
كانوا يستيقظون، يغسلون وجوههم وأسنانهم كأطفال العالم، يتناولون فطورهم ويجهّزون أنفسهم للذهاب للمدرسة، ليكبروا فجأة، وتتحول يومياتهم إلى محطات نزوح، باتت فيها الفتيات الصغيرات أمّهات يحملن إخوتهن الرضّع بعد موت الأم، والفتيان آباء صغار يحملون «غالون» الماء مسافات طويلة ليروون عطش أسرهم، أو يقفون في طوابير ليحملوا بعض طعام طازج.
في غزة، لم تعد الأحلام قادرة على النهوض، تموت في مهدها، ويعشش الموت في كل الزوايا، وتُغتال أصوات اللعب، وترانيم الغناء، وتُترك الأمهات خاويات الحضن من وجوه أطفالهن الجميلة، يرفعن أياديهن إلى السماء، ويصرخن ملء أوجاعهنّ، ويعانقن أرواح أبنائهن المحلّقة مثل الفراشات في فضاء الألم.
حكايات الأطفال في غزة لا تحصى، مشوبة بوجع نابض في كل لحظة، وحزن يثقل قلوبهم.
يقف ذاك الطفل أمام الخيمة بمنشورات قطعها من كرتون المساعدات كتب عليها أمنياته في تلك اللحظة.. بهدوء لافت، يحرّك أحلامه الراهنة المكتوبة على الورق «الذهاب إلى المدرسة، اللعب مع أصدقائي، تناول طعام صحي، النوم بسلام»، ليذكّرنا بلافتة أخرى أنّ «هذه المطالب ليست روتيني اليومي، بل أشياء أتمنى أن أفعلها، وحرمتني منها الحرب»، مع الأمل بمساعدته لتحقيقها عبر التبرّع له.
وفي مقارنة مخيفة عن واقع التعليم العام والعالي في فلسطين قبل 7 أكتوبر، فقد أظهر الإحصاء الفلسطيني أن عدد المدارس في غزة للعام الدراسي 2022-2023 بلغ 796 مدرسة، منها 442 مدرسة حكومية، و284 مدرسة تابعة لوكالة الغوث، و70 مدرسة خاصة.
ووفق «اليونيسيف»، 80% من تلك المدارس دمّرها القصف الإسرائيلي، حيث 8 من كل 10 مدارس سوّيت بالأرض منذ بدء الحرب على غزة.
ينام أطفال غزة في حضن الموت، تلفّهم رائحة الأمومة بقبلات، ويغفون أحياناً إلى الأبد، ومن لم ينم منهم، يأكله الجوع، وتأكله معاناة النزوح من بقعة إلى أخرى.
سما الخطيب، طفلة لا يتعدى عمرها الخمس سنوات، هربت من القصف من شمال قطاع غزة حافية القدمين. أطفال كثير هربوا، ولكن صورة سما علقت في خلايا الذاكرة، وهي تحمل علبة الحليب والحفاضات الخاصة بأخيها الرضيع المصاب.
تركض سما هاربة من الموت وتقول بكثير من الألم «قصفوا دارنا»، تقولها وهي تمضي قدماً نحو وجهة نزوح جديدة باكية.
قصة ملك النجار، 13 عاماً، مع الموت تزاوج بين ألم الفقدان، والقدرة على الصمود. فقدت ملك، وهي نازحة من خان يونس، عينها بعد أن استهدف الجيش الإسرائيلي خيمتها بصاروخ.
ملك غير حزينة لفقدان عينها اليسرى جراء دخول شظية في عينها وتم استئصال القرنية، لأن «ربنا ترك لي عينا أرى بها»، وتحمد الله على أن «بابا شهيد وجد من يدفنه، ونحن الله أعلم من سيدفننا».
لا يثني الموت، من حولها، ملك عن حلمها بأن تكون «طبيبة عيون»، لتستعيد عينها المفقودة، وتبني مستقبلها لأنّ «من حقي أن أضحك وأفرح مثل أطفال العالم».
لا يشبه أطفال غزة أحداً. أعياد ميلادهم في خيمة، تحتفل نور ابنة الثلاث سنوات بعيد ميلادها بكعكة ميلاد أعدّتها لها أمها سلام حجازي من رمل المخيم، حيث الخيمة التي نزحت إليها وأسرتها، وزينتها بوردة زهرية اللون جميلة كوجهها.
وضعت الأم صورة ابنتها وهي تحتفل حزينة، وكتبت «أنا نور واليوم عيد ميلادي ولكنني حزينة لأني أعيش في غزة وسط الحرب، ولا أجد كعكة ميلاد، ولا شموعاً ولا حتى أصدقاء يحتفلون معي. لا يمكنني أن أقيم حفلة، وأريد حقاً مساعدتكم لتكون حياتي أفضل».
فالعائلة تحتاج إلى المال لتعيد ترميم حياتها، وأحلام الأم التي تخرجت بامتياز بدفعة عام 2022 في قسم المحاسبة باللغة الإنجليزية من الجامعة الإسلامية، والتي هدمت خلال الحرب».
نور تعاني آثار الخوف جرّاء القصف الإسرائيلي المتواصل، وتحاول الأم إشراكها في أنشطة داخل الخيمة التي نزحت إليها رغم كل الظروف الصعبة.
أطفال غزة: اشتقنا للخبز!
لا يمكن لوجوه الأطفال الذين قتلوا أن يكونوا أرقاماً. هم عيون فرح، ويوميات معيشة، وتفاصيل لا تختزل لا برقم، أو موت. ولكنهم في تلك البقعة، يُقتلون بدم بارد، ويكبرون قبل أوانهم.
يسأل صحفي طفلة بعينين واسعتين حزينتين «كيف بابا يجيب لك الأكل؟» تجيبه «بابا في الجنة»، «فكيف تقضين يومك؟»، «أقضي يومي مع أخي»، ويردفها بسؤال يشرع أمامها أبواب الألم «ليش زعلانة وما الذي ينقصك؟»، تترقرق الدموع في عينّي الطفلة وتقول بكل وجع «ناقصنا كل إشي. اشتقنا للخبز، واشتقنا لكل إشي».
عاهد عمر، لا يتخطى عمره الـ5 سنوات، ولكنه يستدعي كل تفاصيل ما حدث معه «دخلوا علينا وفجّروا الأبواب. عند انتهاء الهدنة، سمعنا الجيش الإسرائيلي «يطخو علينا»، و«اتحشرنا 15 يوم في الدار» من دون طعام وشراب وحفاضات لأخيه نوح.
هذا الطفل عاش ويلات يرويها بقلب بارد، ولكن عينيه تترجمان الخوف الكامن داخله «بقينا في الغرفة وفي العتمة حتى لا يرانا الجيش الإسرائيلي ولكنهم دخلوا علينا وفجروا الأبواب، و«ربطوا إيدين بابا ورجليه وأوقعوه أرضاً وصرخوا على ماما لأنها أنزلت يديها لتحمل أخي الصغير، ومن ثم أجلسونا في الحمام على الأرض، ونحن نضع أيدينا على رؤوسنا ومن ثم نقلونا إلى غرفة الضيوف وكانوا يكسرون الفناجين أمامنا ويضحكون علينا، وأخذوا بابا وسجنوه 41 يوماً من دون أن نعرف عنه شيئاً».
يقلّد عاهد صوت الطائرات ويمسك بتفاصيل المشهد وهو يأمل أن تضع الحرب أوزارها، ويعود إلى الدار ليأخذ درّاجته بعد أن أحرق الإسرائيليون ألعابه، وثيابه، بعد خروجهم من الدار «أتمنى أن أشوف بابا وأحضنه لأنهم وضعوه في جنوب رفح، في حين عدنا إلى منطقة الرمال في غزة».
رغم النزوح، الأمل يعانق عيونهم ويجهزون «كرّاساتهم» للعودة إلى التعليم. حاتم، طفل نازح يبلغ من العمر 11 عاماً، وحلمه أن يتخصص في جراحة مخ وأعصاب، يقولها بثقة تامة، آملاً أن يعود الأمر إلى طبيعته بـ«العودة إلى منازلنا».
اختار التخصص بعد أن خضع لعملية زائدة في المستشفى الأوروبي قبل الحرب.
دمرت الحرب منزله ومدرسته، يقول «كنت من أوائل مدرستي، وكنت الأول على محافظة مدينة خان يونس. كل الأحلام تبدّدت، ومدرستي تجرفت، وبيوتنا راحت. سأكون من أفضل أطباء غزة، وستجدون اسمي من أوائل الدفعات إن شاء الله تعالى».
لا تنتهي حكايات أطفال غزة وقصصهم المنسوجة من أوجاعهم، وفقدانهم، وفظاعة ما تراه أعينهم من جراح لا تندمل.
هم ليسوا مجرد أرقام، هم أرواح نابضة بالإصرار والقوة لمواجهة الخوف، والمضي قدماً بآلامهم، وعيونهم المتعبة، إلى مساحات من النور.
فلا يمكن إطفاء شعلتهم لأن جذورهم ملتصقة بالأرض، ويروونها بدمائهم.