يحتفي مهرجان شيكاغو قريباً بمرور 68 سنة على ولادته سنة 1956، هو بالطبع ليس أقدم مهرجان سينما في العالم لكنه أقدم مهرجان سينمائي في الجزء الشمالي من القارة الأمريكية.
المهرجان الأمريكي العتيد تمتّع بالفرادة عاماً واحداً إذ انطلق على إثره في العام 1957 مهرجان كبير آخر هو سان فرانسيسكو.
كل منهما كان له شأن كبير في الستينيات والسبعينيات، لكنهما اليوم أقل استدعاء لعناصر النجاح وأقل شهرة من مهرجانات أمريكية أخرى مثل صندانس وبالم سبرينغز وسانتا باربرا وترايبيكا.
ترى لماذا تسطع شمس الشهرة على مهرجان ما ثم تغيب عنه؟ لماذا لا تبقى المهرجانات الأولى على السطح ولا تغرق؟ ما هو المطلوب لتفادي السقوط؟
مهرجانات الأفلام.. من أمريكا لأوروبا
الأسئلة كثيرة وكاشفة عن أن النوايا لا تحقق النجاح بالضرورة، هناك باع واسع بينها وبين ما يمكن فعلاً تحقيقه، وبين ما يمكن تحقيقه، لكن الممكن يتحوّل إلى المستحيل بسبب عوائق أهمها عدم الدراية والسرعة في محاولة إثبات الفاعليّة والشهرة.
قبل 60 سنة أو ما يواكبها لم تكن المهرجانات في الأساس غزيرة العدد (نحو 9000 مهرجان حسب موقع IMBd معظمها صغير لكنه منتظم) ما جعل المهرجانات الموجودة في ذلك الحين قادرة على البروز واحتلال المكان المتقدّم في خريطة المهرجانات..
لكن حتى في ذلك الحين كانت هناك مهرجانات ترتفع عن سواها وأخرى تهبط كالمصاعد الكهربائية، على سبيل المثال، شكّل مهرجان سان سابستيان الإسباني (الذي احتفى بمرور 60 سنة على إنشائه هذا العام) شوكة في خاصرة مهرجان «كان» في مطلع الستينيات ولبضع سنوات، كان أشهر وأكبر وتحلى بميزانية أوفر وجمع أفلاماً أهم.
شيكاغو وسان فرانسيسكو كانا حديث العالم في ذلك الحين تماماً كمهرجانات أوروبا، إلى حد كبير بقي هذان المهرجانان في مرمى اهتمام العالم، السينما الفرنسية اختارت شيكاغو سنة 1972 لعرض نسخة مرممة من فيلم «بونابرت والثورة» لآبل غانس..
وروسيا اختارته ليكون العرض الأول لفيلم غريغوري كزنتزيف «الملك لير» (ما زال أحد أهم الإنجازات الفيلمية عن ذلك النص الشكسبيري الذي لا يُهزم).
على الجانب الأوروبي أحاط مهرجان موسكو نفسه بهالة كبيرة من النجاح، مستقبلاً أفلاماً شرقيّة وغربيّة. وقف وراء نجاحه حقيقة أن العالم المنقسم على نفسه بين يسار ويمين وجد فيه ضالة فريدة من حيث رغبة ذلك المهرجان الدفع إلى الواجهة بسينما تقدميّة سياسيّاً وجيّدة فنيّاً.
مع أنه لم يكن التنويع أمراً سهلاً في البداية، رغم ذلك وفي إطار الدورة الرابعة سنة 1956 (حين كان لا يزال يُقام كل عامين بالتناوب مع مهرجان كارلوڤي ڤاري في تشيكوسلوفاكيا، سابقاً)..
جاءت الأفلام من النادي الأوروبي الشرقي: بلغاريا، رومانيا، ألمانيا الشرقيّة والمجر، كما من السينمات الغربية مثل إيطاليا وبريطانيا والدنمارك وفنلندا والولايات المتحدة.
السينما العربية وجدت في موسكو ملاذاً جيّداً منذ الستينيات وما بعد، فعرض فيه مخرجون عرب لامعون أفلامهم..
من بين هؤلاء المصريون حسين كمال وصلاح أبو سيف وحسام الدين مصطفى والسوري صلاح ذهني والجزائريان محمد بوعماري ومرزاق علواش، والعديد غيرهم، صلاح أبو سيف ومديحة يسري ويوسف شاهين كانوا من أعضاء لجان التحكيم الرئيسية في تلك الآونة.
للملاحظة، كان وجود حسام الدين مصطفى في مهرجان موسكو أمراً غير متوقع بسبب مواقفه السياسيّة، لكنه عرض هناك فيلمه «صونيا والمجنون» (المأخوذ عن رواية «الجريمة والعقاب» لفيودور دستيوفسكي ما يبرر رغبة المخرج في الذهاب به إلى ذلك المهرجان.
طبعاً كان مهرجان موسكو محطّة سياسيّة الهدف، لكن المهرجانات الكبرى الثلاث، فينيسيا، كان، برلين كانت بدورها ردات فعل سياسيّة حيال أحداث وتطوّرات من هذا النوع ألمّت بالعالم قبل الحرب العالميّة الثانية وبعدها.
مهرجانات الأفلام العربيّة
بالممارسة وتبعاً للمتغيّرات، تهاوت العناصر السياسيّة جانباً كسبب لإطلاق مهرجان أو نجاحه، مهرجانات الثمانينيات والتسعينيات وما بعد أقيمت لغايات أخرى في صدرها الرغبة في أن يكون للمدينة أو للبلد الذي تنتمي إليه موقعاً بين هذه الاحتفالات الكبيرة..
في هذا السياق نجد نشأة معظم المهرجانات الدوليّة مثل مهرجانات القاهرة وإسطنبول وأثينا وروتردام وتورنتو ونيويورك وسراييفو ونيودلهي والعديد الآخر بما فيه المهرجانات المذكورة آنفاً.
وعى العالم العربي أهميّة المهرجانات باكراً: قرطاج في مطلع الستينيات ثم دمشق والقاهرة وصولاً إلى دبي وأبوظبي ومراكش، ثم في السنوات العشر الأخيرة، البحر الأحمر والجونة وعمّان وبغداد وسواها.
في مضمار ما يتناوله هذا الاستعراض ارتفعت مهرجانات عربيّة عديدة وهبطت، الحال أن القاهرة بدأ كفاعل أساسي في هذه المنطقة من العالم وكوّن لنفسه صدى طيّباً، بجانب ذاك الذي اشتهر به مهرجان قرطاج كمناسبة لجمع الأفلام العربيّة والأفريقيّة، لكن الطموح الكبير للقاهرة لم يصاحبه معرفة الكيفيّة الصحيحة للإدارة فتحوّلت المناسبة إلى غاية بحد ذاتها.
مع قيام مهرجاني دبي وأبو ظبي ارتفعت الآمال بمهرجانين حديثين في العالم العربي خصوصاً دبي الذي استفاد سريعاً من خبرة من عملوا فيه ومن حقيقة أن مدينة دبي تجذب الإعلام طبيعياً ولها موقع جيد كمدينة مزدهرة ومختلفة..
شهرة مهرجان دبي وقيمته الفنيّة والإعلاميّة سادت طوال سنوات إقامته التي امتدّت لعشر سنوات قبل إيقافه وهو في أوج نشاطه.
بينما تسهر الكفاءات اليوم على دفع كافة المهرجانات، عربيّة وغير عربيّة، إلى صف أمامي أول، لابد الإشارة إلى أن كلمة «العالمي» لا تعني شيئاً أكثر من التعريف بتصنيف الأفلام التي يعرضها، نحن نبلغ العالميّة عندما يختار مهرجاناتنا صانعو الأفلام قبل سواها.