و«النونتشي» يا طويل العمر، هو فن من كوريا يعود لخمسة آلاف عام، وصل متأخراً إلى فرنسا وبقية أنحاء أوروبا، وهو يشبه الفراسة، بمفهومنا العربي القديم، أي «اللماحية» بالمعنى الشعبي..
والقصد من امتلاك هذا الفن هو رفع درجة ما يسمى بالذكاء العاطفي، أي القدرة على الانتباه إلى الآخرين والتكهن بنواياهم وتخمين ما يشعرون به أو ينوون فعله.
هناك بين البشر من يصلح لأن يكون «نونتشي» جيداً، أو يفشل في نيل هذه الموهبة، هل هناك من ينكر أن حسن التواصل مع الناس يحتاج موهبة وتدريباً؟ وأول صفات هذه الموهبة السرعة في التقاط شخصية الآخر بلمح البصر..
لكن لا يكفي أن تكون منتبه الحواس بل يقوم فن «النونتشي» على بذل الجهد لتسهيل العلاقات الاجتماعية، حيث إن حسن الإصغاء إلى الشخص المقابل أمر ممتاز لكن المطلوب اكتشاف ما لم يتفوه به، أي قراءة صمته من خلال تعبيرات وجهه.
إنه فن لا يعتمد على الكلام بل على الحدس، والهدف منه ألا تزعج الآخرين بل أن يشعروا بالارتياح معك، فالمجتمع الكوري يهتم بحماية أفراده من أي جروح نرجسية، نعم هم يعتبرون النرجسية وحب الذات من العيوب، وفي حال تخلص المواطن منها فإن ذلك يعزز الثقة والانسجام والتواصل بين الناس.
بعض العلماء يستخدمون مصطلح «الحاسة السادسة» لوصف قوة الحدس الذي يتمتع به بعض الأفراد، لكن الكوريين يؤكدون أن الحاسة السادسة لا تولد مع الأطفال عند خروجهم إلى الدنيا بل هي تحتاج تمارينَ وتطويراً، وأول شروطها أن يؤمن الفرد بجدواها..
ومن تمارين «النونتشي» ملاحظة حركات الشخص المقابل وإيماءاته وسبر حقيقة روحه، أي القبض على ما يخفيه وراء قناعه الاجتماعي، إنه أمر يشبه قراءة ما بين السطور، فالحركات والتنهدات والابتسامات وتقطيب الحاجبين كلها تخبر عن الشخص أكثر مما يصدر عنه من كلمات، هذا ما يسمونه في الدراسات الحديثة «لغة الجسد».
إن قبضك على روح محدثك يسمح لك باختيار موقعك منه، وبالتالي رسم مخطط التفاهم معه، لكن حركاته وتصرفاته وكلامه ليست وحدها الدليل إلى شخصيته بل قد يكون المفتاح خارج حدود الشخص..
إن نظرة على محتويات مكتبته أو طريقة ترتيب الملفات على مكتبه يمكن أن تقودك إلى حقيقته وأسلوب التعاطي معه، معنى هذا أن كل ما يحيط بالشخص يساعد في تحديد «حالة الطقس» الداخلية له في ذلك النهار.
يفرض عليك «النونتشي» أن تكون مجساتك شغالة باستمرار، أي تلك اللاقطات الخفية التي يُفترض وجودها فوق رأسك، وفي الوقت نفسه لا تتوهم أنك نلت امتيازاً على صاحبك..
بل يدعوك هذا الفن الكوري العريق إلى تحاشي الحكم على الغير بالسلب أو بالإيجاب بل الوقوف على درجة المساواة معهم، ثم إن ممارسة تمارين «النونتشي» تساعدك في أن تكون عادلاً وموضوعياً حتى في النظر إلى نفسك.
لكن «النونتشي» وفق التقاليد الكورية، لا يصلح إلا للتعامل بين أناس من مستوى مالي أو موقع وظيفي متشابه، لأن العلاقة بين صاحب المال وبين العاملين لديه مثلاً، تخرج عن إطار «النونتشي» بسبب خضوعها لاعتبارات التراتبية الاجتماعية، أي فروق الطبقات..
يمكنك تدريب حاستك السادسة على التكهن بما يدور في رأس مديرك أو رئيسك في العمل، لكن إياك من محاولة استخدام فراستك في التأثير على قراراته، كن «نونتشي» معتدلاً ولا يأخذك الغرور.