7 فبراير 2024

د. باسمة يونس تكتب: عدالة شريك

كاتبة إماراتية، دكتوراه في القيادة التربوية

كاتبة إماراتية، دكتوراه في القيادة التربوية. أصدرت (10) مجموعة قصصية، (4) روايات،(12) نص مسرحي وعدة أعمال درامية وإذاعية .حاصلة على أكثر من( 22 ) جائزة في مجالات الرواية والقصة والمسرحية.

د. باسمة يونس تكتب: عدالة شريك

عندما دعا الخليفة المنصور القاضي شريك النخعي لتولّي القضاء، حاول الأخير التهرب من هذه المسؤولية العظيمة، ليس لأنه ضعيف، بل لأنه يخشى ألا يحقق العدالة التي ينبغي تحقيقها لإرضاء الله تعالى، قبل الناس.

لكن الخليفة المنصور لم يعفِه، ولم يستجب لرفضه، فهو يدرك أن القاضي شريك أصلح من يقضي، ولأنه لا يخشى في الله لومة لائم.

وفي يوم جاءت امرأة تستغيث بالقاضي شريك من ظلم وقع عليها، وعندما أجلسها القاضي ليسمع قصتها عرف أنّ من ظلمها هو الأمير موسى بن عيسى ابن عم أمير المؤمنين، وأنه قد أرسل خمسمئة غلام من غلمانه ليقتلعوا حائطاً كانت المرأة بَنته ليفصل بستانها عن بساتين الأمير الشاسعة، فأضاع بذلك الحدود بين أرضيهما وسلبها إياها، ولم يعد لها مفر من البحث عمّن ينقذها وينجيها من ظلمه.

ولم يتردّد القاضي شريك في كتابة خطاب عاجل إلى الأمير، يسلمّ عليه، ويطلب منه المجيء إلى مجلس القضاء لمواجهة المرأة، فثار غضب الأمير، وأرسل إلى صاحب الشرطة يطلب منه الذهاب إلى القاضي ليعاتبه على تصديقه امرأة، وسماحه لها بمخاصمة الأمير.

كان ردّ فعل صاحب الشرطة مفاجئاً للأمير، فقد ترجّاه أن يعفيه من تلك المهمة لأنه يعرف القاضي، ويعرف ما قد يفعله، لكن الأمير أجبره على ذلك، فأمر صاحب الشرطة غلامه بأن يجهز له فراشاً وطعاماً في السجن، لأنه يعرف أن القاضي شريك سيأمر بحبسه بعد سماعه رسالة الأمير.

وهذا ما حدث بالفعل، فقد أمر القاضي بحبس صاحب الشرطة، لأنه وافق على نقل رسالة الأمير الظالم، وحبس كل من أرسلهم الأمير بعده، حتى جنّ جنون الأخير، وأمر بفتح باب السجن وتحرير كل من أرسلهم القاضي إلى السجن.

علم القاضي شريك بما فعله الأمير فقال لغلامه: هات متاعي وألحقني ببغداد، والله ما طلبنا أمر القضاء من بني العباس، ولكن هم الذين أكرهونا عليه، و ضمنوا لنا أن نكون فيه أعزة أحراراً. وعندما علم الأمير موسى بموقف القاضي أسرع للحاق بركبه، وقال له متلطفاً: كيف تحبس إخواني يا أبا عبدالله بعد أن حبست رسولي؟ فقال شريك: لأنهم مشوا لك في أمر ما كان لهم أن يمشوا فيه، وقبولهم بذلك تعطيل للقضاء، وعدوان على العدل، وعون على الاستهانة بحقوق الضعفاء، ولن أرجع عن غايتي إلا بردهم جميعاً إلى السجن، وإلّا مضيت إلى أمير المؤمنين فاستعفيته من القضاء.

سارع الأمير إلى رد الجميع إلى الحبس، واستدعى القاضي شريك المرأة المتظلّمة قائلاً: هذا خصمك قد حضر، فقال الأمير: أما وقد حضرت فأرجو أن تأمر بإخراج المسجونين، فأجابه شريك: أمّا الآن فلك ذلك. وصادق الأمير على ادّعاء المرأة فطلب، منه القاضي شريك أن يرد لها ما أخذه منها، وأن يبني لها حائطها كما كان!

لم يتردد الأمير في الموافقة على ذلك، وعندما سأل شريك المرأة إن كان قد بقي لها شيء عنده، قالت: بارك الله فيك وجزاك خيراً، وغادر الأمير المجلس وهو يردّد: مَنْ عَظَّمَ أمر الله أذلّ الله له عظماء خلقه.

 

مقالات ذات صلة