الطفل سلطان البيت المدلل، ممنوع زجره أو معاقبته أو رفع اليد عليه.. هذه هي أصول التربية الحديثة التي سادت في الغرب بعد سنوات الحرب العالمية الثانية. والنتيجة أجيال تمارس نوعاً من الدكتاتورية حيال الآباء والأمهات.
الباحثة والمؤلفة كارولين جولدمان
ولهذا يأتي الكتاب الجديد لطبيبة علم النفس الفرنسية كارولين جولدمان ليعلن، بكل جرأة، أن سياسة التساهل في التربية تحتاج إلى إعادة نظر.
غلاف كتاب «اذهب إلى غرفتك»
عنوان هذا الكتاب «اذهب إلى غرفتك»، وهي جملة تتردد يومياً في كل أسرة فرنسية، ونحن قد سمعناها في الكثير من الأفلام الأجنبية، إنها العقوبة القصوى في منهج تربية الأبناء، أي لا ركلات على المؤخرة ولا صفعات ولا حرمان من المصروف أو من ألعاب «الفيديو» ولا من الشوكولاتة. كان بطح الطفل على حجر الأب وضربه على مؤخرته هو العقوبة الفرنسية التقليدية حتى النصف الأول من القرن العشرين. ثم قامت الحرب العالمية الثانية وانتهت بتحرير باريس وهبوب رياح الحرية على الجزء الغربي من أوروبا، مع وصول تأثيرات الثقافة الأميركية وأساليبها في التربية الحديثة. انتهى الضرب على المؤخرة وصار ممارسة مدانة، بل وتوصف بالقسوة والهمجية. لكن ها هي الدكتورة كارولين جولدمان ترفع الصوت للتأكيد على ضرورة وضع حد للتربية المتساهلة. لابد للطفل أن يعرف أن هناك حدوداً ليس من المسموح له تجاوزها.
الحب وحده لا يكفي دائماً
في السنوات العشر الأخيرة انتشرت نظرية تقول بأن التربية الصحيحة هي تلك التي تستند إلى ثلاثة أعمدة: الحب والحوار وبعض الحدود. لكن هذه النظرية التي دخلت البيوت واعتنقها الملايين من الآباء والأمهات باتت موضع انتقاد وهي تحتاج إلى مراجعة. ومن المنتقدين مؤلفة هذا الكتاب التي تدعو إلى ما تسميه بالحدود أو الممنوعات التربوية، وهي ترى أنها ضرورية لنشأة الولد أو البنت. لقد لاحظت أن إلغاء الحدود أنتج آباء منزوعي السلطة وأبناء منفلتين يصعب التحكم بهم. ورغم حداثة صدور كتابها فإنه يتصدر أرقام المبيعات. كما أن الـ «بودكاست» الذي تقدمه كارولين جولدمان هو الأكثر متابعة في فرنسا.
لماذا شاعت نظرية التربية المتسامحة شيوعاً كبيراً على مدى العقود الماضية؟ السبب، حسب المؤلفة، هو أن المدافعين عن تلك التربية يقدمون حكاية جذابة يحب الجميع سماعها، دون أن يكون لأولئك المدافعين أو الناطقين باسم التربية الحديثة أي مؤهلات أو تخصصات علمية في هذا الميدان. وشعارهم هو «الحب هو الحل»، أي أن الوالد المحب والوالدة المحبة سيقدمان للمجتمع أفراداً محبين ورائعين. لكن هذا الشعار يفتقد للأمانة، وهو أمر يدركه كل أب وأم. ففي حالات معينة يمكن للأبناء أن يوصلوا آباءهم إلى حافة الانهيار، وهو أمر يعرفه أطباء النفس. فالحب لا يكفي دائماً، ولابد من وقوع مواجهات أحياناً. وغالباً ما يواجهها الآباء بالبرود وبرفع الحواجب، لا أكثر. في حين أن الأمر يتطلب أن يمارس الأب دوره الضروري والمشرّف كقائد للأسرة ومرشد لأبنائه.
تنص وثائق المفوضية الأوروبية على أن التربية الإيجابية هي «سلوك أبوي يستند إلى المصلحة العليا للطفل بهدف تنشئته وزرع حس المسؤولية فيه. وهي تربية غير عنفية تعترف بشخصية الطفل وتقدم له المساعدة من خلال وضع مجموعة من المعايير لتعزيز تطوره». وللأسف فقد استند بعض المربين إلى هذا التعريف وحذفوا واحداً من الأعمدة الثلاثة المذكورة أعلاه وهي الحدود التربوية.
إنهم يرفضون مفردة «لا» في التعامل مع الطفل. ويرون أن المنع يؤدي إلى اضطرابات نفسية. لكن من غير المعقول أن يقول الآباء «نعم» للطفل في كل التصرفات. إن فكرة تربية الطفل بدون تجاذبات القوى هي خدعة مؤكدة. ولابد من أسلوب علمي لاحتواء العدوانية الطبيعية للطفل عندما يصاب بحالات من الانفلات والبكاء والتمرد والرغبة في أمر مرفوض.
تصل إلى عيادات أطباء النفس حالات تشير إلى أن هناك أطفالاً يعانون في كل مكان في فرنسا، والسبب افتقادهم للحدود التربوية. تقول المؤلفة إنها تدري بهذه الحالات من خلال ما تراه في عيادتها وفي عدة مراكز تتعامل معها في أنحاء البلاد، وهو أمر لا يقتصر على فئة اجتماعية دون أخرى أو على موقع جغرافي دون غيره. ومن نتائج غياب الحدود يلاحظ علماء النفس في السنوات الأخيرة تزايد الشكوى من الطفل الذي يفعل كل ما يخطر على باله ويتفوه بكل ما يخطر على باله. إنه يصرخ ويقاطع الآخرين في الكلام ولا يؤدي واجباته المدرسية ويضطهد أشقاءه وشقيقاته ويكثر الشكوى من كل شيء ويتذمر من أي فرض من الفروض. إن الكأس يفيض في تلك العائلات وليس هناك من إطارات تستوعب تصرفاته. والنتيجة تحول البيت إلى جحيم. فالولد يرفض الأصدقاء ولا يبدي محبة للأجداد ويتفوه بكلمات غير لائقة وعدوانية تجاه المحيطين به، وهو يبدو محبطاً ويائساً من عجزه على أن يكون عاقلاً. إنه أمر مؤلم لأي طفل وهو أكثر إيلاماً للوالدين رغم أنهما محبين ومتفهمين ويلبون كل طلبات الولد. إنه، باختصار، يمارس عليهما تعذيباً وأيديهم مقيدة ولا سلطة لهما عليه.
ما مصير هذا الطفل حين يبلغ سن الرشد؟ من الطبيعي أن يتعايش مع تمرده ويجنح نحو الممنوعات. في حين أن الطفل الذي وضعت له حدود تربوية سيكبر في أجواء هادئة توفر له الأمان المجتمعي. مع هذا فإن البيت الهادئ على طول الخط شبه مستحيل. ويحدث أن نرغب جميعاً، كباراً وصغاراً، بالرغبة في الثورة ورفع الصوت على المحيطين بنا ومصارحتهم بآرائنا الجارحة فيهم، لكننا نكبت الغضب ونقمع الانفجار. أما البالغين الذين كانوا أطفالاً بلا ضوابط فإنهم ينفجرون بدون أدنى حرج. لذلك فإن حياتهم تصبح صعبة لا تطاق، ويجدون أنفسهم معزولين بسبب ردود أفعالهم المنفلتة أو بسبب طباعهم في التحكم والسيطرة. والأدهى أنهم يعون ما يفعلون ويدركون سبب تقاطعهم مع محيطهم.
من دلال إلى إفساد
ترى الدكتورة جولدمان أن خطاب التربية المتسامحة قد غزا وسائل الإعلام وبهذا ما عاد الآباء راغبين في تأطير أطفالهم. عدا عن أن الرجال والنساء باتوا يتأخرون في الزواج والإنجاب ويكتفون بطفل واحد، على الأغلب، الأمر الذي يجعلهم ضعفاء أمام رغباته. إنهم في وضع اقتصادي يسمح لهم بتوفير كل ما يريده. وقد يجدون في الابن تعويضاً عن حرمان سابق عانوه في طفولتهم. لذلك نسمع كثيراً عبارات من نوع: «أريد لابني أن يحقق ما لم يتوفر لي». ومن المؤسف أن يتحول الدلال إلى إفساد، خصوصاً عند الأمهات اللواتي ينجبن في سن متأخرة. وبهذا ينسى كثيرون أن واجبهم الأول هو تهيئة فرد متجانس مع محيطه. ولكن كيف تكون التربية الصحيحة للأطفال المتمردين؟
في حال ارتكب الطفل حماقة أو صرخ ودخل في حالة هياج فإن إرساله إلى غرفته هو التصرف السليم. «اذهب إلى غرفتك وأغلق الباب». ومن المفيد تنبيه الطفل ثلاث مرات قبل حجزه في غرفته والقول له بأن التهديد سيجري تنفيذه في حال واصل صراخه بعد التنبيه الثالث. لكن يجب ألا يستمر الحجز الانفرادي أكثر من دقيقة أو دقيقتين على الأكثر. واعتباراً من سن الثالثة يمكن تمديد الفترة قليلاً. وعندما يصبحون في سن أكبر فإنهم على الأرجح سيهدأون من تلقاء أنفسهم ويتوقفون عن المطالبة بما كانوا يريدونه. وفي حال غادر الولد غرفته بدون أن يسمح له الوالدان بذلك فإن عليهما إفهامه بأنهما سيطيلان فترة الحجز في الغرفة، أي عدم تركه يقرر مدة العقوبة وفق رغبته. لابد لكلمة الأب أو الأم أن تتقدم على رغبات الابن. ولكن ما العمل إذا فشل هذا الأسلوب؟
إذا رفض الطفل الذهاب إلى غرفته فإن الحل هو إهماله وأن يترك الوالدان غرفة المعيشة ويواصلان ما كانا يفعلانه. وإذا حاول جرهما إلى تبادل الكلام معه فإن عليه أن يفهم أن ذلك لن يتحقق قبل أن تكتمل فترة العقوبة. وبهذا فكلما تأخر في الذهاب إلى غرفته فإنه يطيل وقت القطيعة مع الوالدين. ورغم كل هذه النصائح فإن كثيراً من الآباء والأمهات يشعرون بالذنب لاضطرارهم لمعاقبة أطفالهم. فما هو الحل للتغلب على هذا الشعور؟ إن المحللة النفسانية كلود آلموس واضحة في قولها إن الشعور بالذنب هو أمر رديف للأبوة وللأمومة. فقبل الإنجاب، تسيطر على النساء والرجال أحلام وردية حول هذين المفهومين. وحالما يولد الطفل يدركان أن الأمر ليس بتلك العذوبة التي حلما بها. إن لحظة الإدراك هذه تؤدي إلى الشعور بالذنب لأنهما قد يضطران إلى تعنيف الطفل. وهو من جانبه يعنفهما من خلال عدم طاعته لهما رغم كل الحب الذي يحيطانه به.
وتبقى الكتب التي تتناول تربية الأطفال تتذبذب ما بين نصائح التساهل والشدة. وللأسف فإن كثيرين يخوضون مغامرة تأليفها لأنها مطلوبة في المكتبات ولها سوقها الرائجة. لكن الآباء والأمهات قادرين بحسهم السليم على فرز النصائح الباطلة عن تلك المفيدة. وما كتاب الدكتورة كارولين جولدمان سوى تشجيعهم على رفض ما يرونه متطرفاً من نصائح وأساليب.