اليابان دولة عريقة لكن مجتمعها يشيخ. وقد تراجع عدد المواليد، في العام الماضي، إلى 800 ألف طفل، في حين أن البلاد تحتاج إلى طفرة في الولادات لتأمين ما تحتاج إليه من أيدٍ عاملة، خلال السنوات العشرين المقبلة. وفي حين أن أصابع الاتهام تتوجه إلى النساء باعتبارهن المسؤولات عن قلّة الإنجاب، هبت اليابانيات للدفاع عن أنفسهن ضد التهمة.
ما الذي يحصل في اليابان؟ ولماذا تسعى دولة عربية إفريقية عريقة، مثل مصر، إلى ترشيد النسل، ومنع الانفجار السكاني، في حين تحاول دولة آسيوية عريقة أيضاً، أن تشجع شعبها على مزيد من الإنجاب؟ قبل فترة، وقف، ماساكو موري، مستشار رئيس الوزراء الياباني، ليحذّر من اختفاء دولته إن لم تتخذ إجراءات سريعة لزيادة أعداد المواليد. وقال إن الانخفاض السريع في معدل المواليد يهدد بتدمير شبكة «الأمان الاجتماعي والاقتصاد في البلاد».
هل يمكن أن تختفي اليابان بسبب قلة الخصوبة؟ لم يزد عدد مواليد العام الماضي على 800 ألف طفل وطفلة، وهو رقم ضئيل نسبياً، لم تعرفه البلاد منذ استخدام علم الإحصاء في سنة 1899. فكيف يمكن تفسير هذا التراجع السريع؟
الأم اليابانية .. بين العمل وعدم وجود حضانة
تشرح لنا الأمر الباحثة والصحفية الفرنسية كارين نيشيمورا، المتزوجة من ياباني، وتعرف جيداً بلاد الشمس المشرقة. وهي تؤكد أن عوامل عدة تقف وراء قلّة المواليد، فمن جهة، هناك الظرف الاقتصادي الصعب الذي لا يشجع على الإنجاب وتحمّل مسؤولية طفل جديد، ومن الجهة الأخرى، ضيق سوق العمل التي تهدد ببطالة واسعة النطاق. والعمل هو روح الياباني وسبب وجوده. ومن لا يجد عملاً كأنه ميت توقف عن الحياة. يضاف إلى هذا عدم وجود حضانات كافية لأطفال النساء العاملات.
في مطلع العام الجاري، أبدى رئيس الوزراء خشيته من تعطل المجتمع الياباني. ومنذ ذلك الحين والصحافة هناك لا تتوقف عن نشر التقارير والتحقيقات حول الموضوع. وكان هناك مقال أثار ضجة عارمة، جاء فيه أن السبب هو أن اليابان هي البلد الذي يضم أكبر نسبة في العالم من النساء اللواتي تجاوزن سنّ الخمسين. وكانت ثورة اليابانيات طبيعية ضد الكاتب الذي يتهمهن بأنهن قليلات الخصوبة وبالغات سنّ اليأس، أي «غير نافعات للمجتمع».
وسرعان ما اشتعلت مواقع التواصل بالتعليقات والردود، وظهر هاشتاغ بعنوان «بلا طفل طوال الحياة». فقد علَت أصوات النساء ضد ذلك الاتهام، وكان «النت» هو ساحة المعركة. ونشرت آلاف اليابانيات آراء شرحن فيها الأسباب التي منعتهن، أو صرفتهن عن الرغبة في الأمومة. وتقول الكاتبة اليابانية، توموكو أوكادا، إن إنجاب طفل كان هو الأمر الطبيعي والهدف الأول للنساء في السابق. لكن الوضع تغيّر في الألفية الثالثة.
كانت اليابانية تسجل اسمها في مواقع التعارف بين الجنسين على أمل الالتقاء بشريك يشبع لها غريزة الأمومة. وكانت تشعر بالذنب في عيد الأب حين يسألها والدها متى تقدم له الهدية الأعز، أي حفيداً يسلّي شيخوخته. ثم قرأت مئات التعليقات لنساء يشرحن تجاربهن الخاصة، وسبب عزوفهن عن الزواج والإنجاب، واكتشفت أن المرأة اليابانية ليست وحيدة في معاناتها، كما أنها ليست مذنبة، ذلك أن المجتمع يسير في اتجاه نمط من الحياة يحرمها من الأمومة.
مصاعب تربية الأطفال في اليابان
ونعود إلى تصريح نائب رئيس الوزراء الذي قرع جرس الإنذار. ونقلت عنه محطة «سي. إن. إن» قوله «إن المأساة تتركز في أن الأطفال الذين يولدون الآن، سيُلقون في مجتمع يتشوه، ويتقلص، ويفقد قدرته على العمل. وإذا لم يُتخذ إجراء لحل هذه الأزمة فسوف ينهار نظام الضمان الاجتماعي، وستنخفض القوة الصناعية والاقتصادية، ولن يكون لقوات الدفاع الذاتي، أي للجيش، ما يكفي من المجندين لحماية البلاد». ومن أهم أسباب الانخفاض الكبير للمواليد، كلفة المعيشة المرتفعة في اليابان، والمساحة المحدودة، ونقص دعم برامج رعاية الأطفال في المدن، وهي العوامل التي تصعّب تربية الأطفال. وتقول الأرقام الرسمية المنشورة إن متوسط دخل الأسرة السنوي تراجع من 50,600 دولار عام 1995، إلى 43,300 دولار عام 2020. وهي أرقام صادرة عن وزارة الصحة والعمل والرفاهية اليابانية.
ليست اليابان فريدة في مشكلتها. فالعديد من الدول الصناعية تعاني انخفاض معدلات المواليد. لكن المشكلة حادة بشكل خاص في اليابان التي تضم ثاني أكبر عدد من الكثافة السكانية في العالم، بعد موناكو، وتشهد نقصاً متزايداً في العمالة بسبب لوائح العمل الصارمة. وهنا لابد من التذكير بأن اليابان تضم امرأتين فقط، في حكومتها، وأكثر من تسعين في المئة من الرجال في مجلس النواب، أي البرلمان. لهذا فإن النائبات يشعرن بالتهميش في المناقشات العامة، بل ويتعرضن للهجوم.
اليابانية تعيش تحت ضغط «الأم المثالية»
«لا تلوموا النساء على انخفاض معدل المواليد»، هكذا غرّدت أياكو، وهي شابة من طوكيو تبلغ من العمر 38 عاماً، ولم تنجب أطفالاً. إنها تدعو عبر «النت» إلى الاعتراف بـ «الخيارات المختلفة» في الحياة. ماذا تعني بهذا؟ من وجهة نظرها، فإن التوزيع التقليدي للأدوار في اليابان هو جوهر المشكلة. وجاء في دراسة حكومية نشرت في عام 2021، أن النساء اليابانيات يخصّصن وقتاً أطول بأربعة أضعاف للأطفال والأعمال المنزلية، من الرجال، ومع ذلك، يتزايد عدد الأمهات اللواتي يلجأن إلى العمل عن بعد، أي من البيت.
وهناك تقدم لا يمكن إنكاره بين الجيل الجديد من الآباء الذين يبذلون جهوداً لمساعدة زوجاتهم في البيت. لكن الكثير من الضغط لا يزال يثقل كاهل النساء اللواتي يكافحن من أجل أن يحققن لقب «الأم المثالية». وهنا تشرح الصحفية، كارين نيشيمورا، في مقابلة مع صحيفة «مدام فيغارو» الفرنسية، أن النساء يستيقظن مبكّرات، كل صباح، لإعداد أفضل «بينتوس»، وهي صناديق الغداء التي تؤخذ سفرياً، نظراً لعدم وجود مطاعم مدرسية كافية. وإلى جانب هذا العبء فإن التحيّز الجنسي في المجتمع الياباني يقيّد النساء. ومؤخراً، قال أحد قادة الحزب الحاكم، إن السبب الرئيسي لانخفاض معدل المواليد يرتبط بحقيقة أن النساء يتزوجن في وقت متأخر جداً، ما يعني ضمناً أنهن «يكسبن الكثير من النقود في العمل».
كان عدد السكان في اليابان 128 مليون نسمة في عام 2008، والتعداد حالياً 124 مليوناً. وفي الوقت ذاته، ارتفعت نسبة الأشخاص الذين يبلغون من العمر 65 عاماً، فأكثر، إلى أكثر من الثلث، في العام الماضي. وتحتاج اليابان إلى معدل خصوبة قدره 2.1 للحفاظ على استقرار البيئة الديموغرافية، في حين أن المعدل الحالي هو 1.3.
وفي حديث لوكالة الصحافة الفرنسية، اعترفت أياكو بأنها تتردد في التحدث علناً في مواقع التواصل لكنها تشعر بـ«الاستبعاد» عندما تعالج هذه القضايا في الحياة الواقعية. وتقول هذه الشابة البالغة من العمر ثلاثين عاماً، والتي فضلت ذكر اسمها الأول فقط «لديّ انطباع بأن النساء يتعرضن لانتقادات شديدة عندما يعبّرن عن آرائهن».
وبالنسبة إلى يويكو فوجيتا، أستاذة دراسات النوع الاجتماعي في جامعة ميجي، تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة للنساء لمناقشة السياسة والقضايا الاجتماعية من دون خوف، وفي كثير من الأحيان من دون الكشف عن هوياتهن. كما انتشرت تغريدات غاضبة من رعاية الأمهات لأطفالهن بمفردهن، أو الشكوى من رفض طلبات التسجيل في الحضانة. لكن لم يكن لذلك تأثير يذكر خارج غرف الدردشة. ففي الغرف المغلقة، يتحدثن عن أمور تعتبر من المحرمات، أي الولادات التي تتم خارج إطار الزواج. على الرغم من أن نسبتها ضئيلة بالقياس للدول الصناعية الغربية.
من يصدق أن دولة مثل اليابان تفتقد كفايتها من دور الحضانة؟ وهناك نقص فادح في جليسات الأطفال، وعدم وجود رعاية ليلية تقريباً للأمهات العاملات في وظائف ليلية، كالتمريض والمصانع والمخابز. ونتيجة ذلك، تتعطل الحياة الاجتماعية للوالدين، سواء أكان ذلك الذهاب إلى السينما والمطاعم، أم حضور الحفلات الموسيقية. ولهذا السبب، يجري اتخاذ إجراءات ملموسة تهدف في المقام الأول إلى السماح بوصول أفضل إلى خدمات رعاية الأطفال، والتوزيع المنصف للمهام المنزلية. ثم إن زيادة الأجور ضروري للمساهمة في طرد المخاوف من انقراض اليابان.
إقرأ أيضاً:
- لماذا تخاف الفتيات الزواج؟
- أمهات وظفن الـ"تيك توك" لتوثيق رحلة الأمومة والاستمتاع مع أطفالهن