لا تتوقف أهمية الشهر الكريم، وما يحمله العيد، عند القيم الدينية والأخلاقية من الصيام، ومجاهدة النفس، وترسيخ قيم العطاء والتعاون والتكافل، ليصل تأثيره إلى المنظومة الاجتماعية، ويكون الفرصة للصفح وإصلاح ذات البين، والرجوع عن الخطأ، وتوطيد الروابط الاجتماعية بين الأهل، والإخوة، والأحبّة، وإعادة العلاقات التي أفسدتها ظروف الحياة إلى مسارها الصحيح.
إحداث تغيير إيجابي في الشهر الفضيل
عن تأثير شهر رمضان في علاقاتنا الاجتماعية، يوضح خبير التنمية البشرية والعلاقات الأسرية، الدكتور شافع محمد النيادي «شهر رمضان فترة روحانية وفرصة تتبدى فيها أهمية بناء وتصحيح مسار علاقاتنا الاجتماعية، بمختلف مستوياتها، مع الأسرة، والإخوة، والأقارب، وزملاء العمل، سواء بالتواصل الذي يعزز شعور الانتماء وروح المحبة، وأهمية حل الخلافات، أو بالتسامح والتقبّل المتبادل، لذا لا بد أن نستثمر هذا الشهر في بناء علاقات صحية خالية من الشوائب، تعزز من القيم الإيجابية».
يوضح د. النيادي دور المشاعر السلبية في تدمير العلاقات «تعتبر المشاعر السلبية من أبرز العوامل التي يمكن أن تؤثر سلباً في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، فالغضب، والحسد، والغيرة، والكراهية، هي من أكبر أسباب تدمير العلاقات الاجتماعية، حين يزيد التوتر والصراع، ويصبح الحوار أكثر عدوانية، ويتغير السلوك بشكل سلبي، ويفقد الشخص القدرة على التفكير الهادئ، والتعبير بشكل صحيح عن مشاعره، وبالتالي تزداد حدة الصراع، وتتحول الحوارات إلى نقاشات عدائية تشتت العلاقات».
ويكشف د. النيادي عن تأثير قيم شهر رمضان وفترة العيد في سلوكاتنا «ما يحمله شهر رمضان من قيم ومبادئ إنسانية، تترجم بتقديم الدعم المادي والمعنوي، وتعزيز قيم التضامن التي تنعكس على مشاعرنا، فتمنحنا سعادة وراحة نفسية، وبالتالي، إحداث التغيير الإيجابي في حياتنا الشخصية، وعلاقاتنا الاجتماعية، إضافة إلى فرصة تبادل الزيارات العائلية، والدعوات إلى الإفطار والسحور من الأهل، والأقارب، والأصدقاء، ورغم ما تحمله من تعب وإجهاد، إلا أنها فرصة رائعة للتواصل والتجمع مع الأحبة الذين لا نجد فرصة للقائهم كثيراً، باقي أيام السنة، بسبب انشغالات الحياة. وهذا ينطبق على احتفال عيد الفطر المبارك الذي يكون مناسبة لتقوية العلاقات، وتعزيز روح التعاون والتفاهم، من خلال تبادل الهدايا، والزيارات، والتهاني، تعبيراً عن المحبة والتقدير».
يوجز د. النيادي «الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، لذلك فإن التواصل وتكوين علاقات اجتماعية بالنسبة إليه ضرورة أكثر قوة من أي وقت مضى، لذا، لا بد له من اكتساب بعض المهارات الاجتماعية التي تساعده على بناء، والحفاظ على علاقات ناجحة، فالدعم النفسي، والمجاملة، والتعبير عن الحب، والالتزام بشروط الصداقة، والثقة، والاهتمامات المشتركة، والتكييف، والتنازل بحدود، هي بعض عوامل نجاح هذه العلاقات».
فرصة لإصلاح العلاقات وتحسين الصحة النفسية
ومن جانب نفسي، تتحدث المستشارة الأسرية وأخصائية أتكيت العلاقات آسية القرشي، «علمياً ينعكس الصيام على صحة الإنسان إيجابياً، فهو يسهم في صفاء الذهن والنفس، ويوفر ف،رصة لتقوية الإرادة، وتوجيه السلوك، والعمل على تحقيق الأهداف، وعندما يرغب شخص في الحصول على نتيجة ما، يسلك السلوك الذي يساعده على الوصول إليها، لذلك يكون الإقبال على شهر رمضان فرصة فريدة لإصلاح خيوط العلاقات، وتحسين الصحة النفسية، حيث يتنفس القلب بأمان.
وقد أثبتت الكثير من الدراسات امتلاك الصيام تأثيراً، عميقاً وفعالاً، في الحالة النفسية، وتحسين العلاقات، حيث يتيح لنا توجيه قوة إرادتنا وانتباهنا نحو تحقيق الأهداف، وتهذيب النفس على الصبر والامتثال لطاعة الله تعالى، وتحقيق التوازن الداخلي، في ظل تجنّب تناول الطعام والشراب، فيكون فرصة لنا لتجديد الالتزام بالتفكير الإيجابي، والتحكم في الانفعالات العاطفية، وردود أفعالنا، وبالتالي تعزيز إدراكنا لتجنّب النزاعات والمشاكل، الزوجية والأسرية، والاحتفاظ بأجمل الذكريات، وطلب الأجر من الله تعالى».
وعن أهمية استثمار فترة شهر رمضان والعيد في تحسين العلاقات الاجتماعية، تبيّن القرشي «يجب أن يكون الهدف منذ البداية إرضاء الله تعالى، والتقرّب إليه بالعبادات، والصبر والتعامل الحسن، ومشاركة بعض الأنشطة والمهام، كالذهاب معاً إلى المسجد لأداء الصلوات، والتقليل من الإسراف، والتعاون في صنع الوجبات الصحية اللذيذة بكل حب، لإسعاد الزوجة، وأفراد الأسرة، والاتفاق على توزيع المهام، والتقليل من الشكوى، واستشعار قيمة نعمة وجود الزوج والزوجة والوالدين والإخوة والأبناء»، تضيف «وليكون رمضان أجمل شهر نسعد به أنفسنا كعائلة، علينا أن نسعى جاهدين إلى عبادة الله، وطاعته ورضاه، والتعاون على عمل الخير، والقول الطيّب، والتشجيع بعبارات الشكر والمديح والثناء، لما لها من أثر إيجابي وفعّال في النفس، وتحسين العلاقات.
فالمبادرة بالاعتذار، واستخدام العبارات اللطيفة مباشرة بعد أي سلوك، سواء كان عن عمدٍ أم عن غير عمد، يسهم في الحد من حجم النزاعات والتراكمات في المشاعر والعلاقات»، وتكمل القرشي «التنازل عن الأنانية والغرور، ونصرة الذات، والتخلّق بالرحمة، والعفو والتسامح، والابتعاد عن عيش دور الضحية والوقعات الكثيرة، والمنّ والأذى، والصّراخ، والإسراف في المقارنة وتذكّر أخطاء الماضي، والتركيز على الاعتكاف، يساعد على تعافي النفس من أي شوائب والوصول إلى النضج النفسي، وتحسين العلاقات الأسريّة والاجتماعية».
نزغات الشيطان سبب في قطع الصلات
يشير كبير المفتين بإدارة الإفتاء في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري، بدبي، الدكتور محمد عيادة الكبيسي «من رحمة الله بعباده أن جعل لهم مواسم للخيرات، ومن أعظمها شهر رمضان، شهر الرحمة والبركات، الذي شرع فيه أنواع العبادات، وخصّه بكثير من الميزات، وارتبطت به الكثير من المظاهر الاجتماعية الجميلة المألوفة، منها تبادل التهاني، وزيارة الأقارب والجيران، والاجتماع في الصلوات، وعلى موائد الإفطار، والسمر بعد صلاة التراويح، وغيرها من الأنشطة والمظاهر التي تزيد الصلة بالأقارب، والأرحام، وتقوّي العلاقات الاجتماعية، وتريح النفوس، وتطهّرها من أمراض القلوب، وتزيل ما قد يوجد فيها من مشاعر سلبية كسوء الظن، والغلّ، والحقد، والحسد، والكراهية، وغيرها من المشاعر التي قد تتراكم في بعض الأحيان، والتي يمكن أن تتوسع لتشمل العائلات، فتحصل الشحناء، ويزداد الجفاء بينها، وعادة يعاند كل طرف ويصرّ على موقفه، ويأبى أن يتنازل أو يبادر، ويرغب أو يشترط أن يعتذر الطرف الثاني أولاً، وغيرها من نزغات الشيطان التي يمكن أن تكون أسباباً في قطع الصلات، وتفكك العلاقات، وفساد الأخلاق والمعاملات».
يوضح د. الكبيسي دور المناسبات الدينية واللقاءات الاجتماعية في تعزيز التواصل والتقارب، وزراعة بذور التفاهم والألفة بين أفراد الأسرة، والأصدقاء، والأقارب، وحتى زملاء العمل، والأزواج «رمضان فرصة عظيمة لتقوية العلاقات، ورغم ضعف كيد الشيطان، لكن كيده في رمضان يكون أضعف، لأن الشياطين تصفد في رمضان، ويعود العباد إلى الله تعالى، يتقرّبون إليه بالطاعات، ويحميهم من شرّ شياطين الإنس والجن، وكيدهم ومكرهم».
ويصف الصوم «هو ليس الامتناع عن الطعام والشراب والشهوات فحسب، بل لا بد فيه من ضبط النفس من الانفعالات السيئة، وتطهير الألسن من الكذب، والغيبة، والنميمة، وتحسين الأخلاق وتجميلها، فيقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به والجَهْلَ، فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ»، وعلى العاقل أن يغتنم فرصة شهر رمضان والعيد، بالتواصل مع من حوله، والسعي في إصلاح ما فسد من علاقاته بهم، على نطاق الأسرة، والأقارب، والجيران، والأصدقاء، وزملاء العمل، وسائر العلاقات، بتجاهل الماضي ونسيان ما كان، والسعى في كسر الحواجز النفسية، وإزالة العقبات المصطنعة والمتراكمة، والبدء بالتواصل مع الناس وزيارتهم، والتصالح معهم، ومسامحتهم».
ويوجز د. الكبيسي «على الإنسان أن يتذكر أن الإصلاح من أعظم أبواب الخير في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)، فإصلاح العلاقات الاجتماعية، وتصفية القلوب، والعفو، والصفح، تعود بالمنفعة على الإنسان نفسه أولاً، تشعره بالرضا عن نفسه، فيفرح بتسامحه، ويجد الطمأنينة في حياته، كما قال الإمام الشافعي: لما عفوتُ ولم أحقدْ على أحدٍ * أرحتُ نفسيَ مِنْ هَمِّ العداواتِ، والأهم من ذلك العفو، والصفح من أسباب الحصول على الغفران يوم القيامة، فقد قال الله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)».
ويختم كبير المفتين «علينا اغتنام شهر رمضان والمناسبات الكريمة في ما ينفعنا في ديننا، ويصلح لنا دنيانا. وندعو بالدعاء العظيم الذي علّمه النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه، رضوان الله عليهم: اللهمَّ ألِّفْ بين قلوبِنا، وأصلحْ ذاتَ بينِنا، واهدِنا سُبُلَ السلامِ، ونجِّنا من الظُّلماتِ إلى النُّورِ، وجنِّبْنا الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بطنَ، وباركْ لنا في أسماعِنا وأبصارِنا وقلوبِنا وأزواجِنا وذرياتِنا، وتُبْ علينا إنك أنت التَّوابُ الرحيمُ، واجعلْنا شاكرِينَ لنعمتِك، مُثْنينَ بها، قابلِيها، وأَتمَّها علينا».