مجلة كل الأسرة
06 يوليو 2022

احذر عدوك الداخليَّ! كيف تتحرر من «الأنا السامة»؟

أستاذة وباحثة جامعية

احذر عدوك الداخليَّ! كيف تتحرر من «الأنا السامة»؟

حياتك واحدة وهي ملك لك ولا شيء يجبرك على الانصياع لمعوقاتك الداخلية من صورة سيئة عن النفس وشعور بالنقص ناجم عن مؤثرات خارجية. فكل هذا وسواه يشكل ما يمكن وصفه بـ«الأنا السامّة» التي تجعلنا نقوم بخيارات سيئة تسد أبواب المستقبل أمامنا.. فما هي هذه المعوقات، وكيف السبيل إلى الخروج منها؟

تشرح لنا د. ماري إستيل دوبون في كتابها" كيف تتحرر من الأنا السامّة " المعوقات الداخلية التي تفسد حاضرنا وطرق التخلص منها

كتاب
كتاب " كيف تتحرر من الأنا السامة؟" للدكتورة ماري إستيل دوبون

ما هي «الأنا السامّة»؟

«الأنا السامّة» هي مجموعة تمثّلات وانفعالات وخيارات ومشاعر سلبية تحول دون أن نعيش حياتنا ونحقق ذاتنا. وهي تحتجز حريتنا في نطاق دور لا يخوّلنا التنفس بارتياح وتجعلنا نرى الأمور من خلال منظار واحد أو نكرر السلوكيات ذاتها التي لا تناسبنا. تجعلنا نقبل بمساومات تصير عبارة عن طريق مسدود أو خيارات تجذبنا نحو الأسفل وتوطد في داخلنا صورة سلبية عن ذاتنا أو عن سوانا وتغذي غضبنا أو تخنق قدرتنا الإبداعية وتتعارض وأحلامنا لمصلحة مخاوفنا. وقد نبلغ مرحلة لا نعود ندرك فيها وجودها ربما لأن الأمور كانت كذلك منذ الطفولة أو ربما نعتقد أن الأمور هي كما هي ولا يمكننا أن نبدّل فيها شيئاً.

والفخ الذي ننزلق فيه ببطء حين «نكبر» هو التماهي مع هذه الطبيعة الثانية ولا نرغب في رؤية أي فرصة للسعادة والحرية حين تتراءى لنا لأننا سنصفها بالجنون ولأن المجهول يخيفنا والحرية تتضمن مخاطر نعتقد أننا لا نستطيع مجابهتها. فنغلق الباب على أحلامنا في حين أن التقدم في السن يجب أن يعني التفتح والازدهار وليس الانعزال والضمور.

الأحلام صعبة لكن ممكنة

ومهما بدا الأمر غريباً، فإن ما أنقذ أشخاصاً عادوا من ظروف فظيعة، أو ما مكّن القيام باكتشافات عظيمة، هو القدرة ذاتها على التجذُّر في حياة داخلية والاحتفاظ بصور شخصية، فالحرية الشخصية تبدأ بتلك القدرة على الإصغاء إلى أحلامنا مهما كان الواقع المباشر.

من المؤكد أن ما نقوله صعب جداً اليوم بالنسبة إلى الغالبية منا لأن التربية لم تسمح به ولأننا استوعبنا أحلام أهلنا أو رغبتنا في إرضائهم ولأنه ثمة قيود اقتصادية واجتماعية كبيرة ولأننا بشر يعترينا الخوف مثلما تقودنا الرغبة.

«الأنا السامّة» هي تلك التي تقفل الباب أمام الأنا العميقة، أمام طفلنا الداخلي، هذا الكائن الذي يحدد ما نحن عليه ويحتوي كل حيويتنا وذكاءنا وإبداعنا. والسبب هو أننا نحمل جميعاً جرحاً أو معاناة معينة.

والأنا السامة هي ذاك الجزء منا الذي يتصرف بطريقة غير مسؤولة وعنيفة إزاءنا حين يسارع إلى الهرب نحو نشاطات مسلية وأنواع الإدمان أو المكافآت الخارجية بغية تجنب الاتصال مع ما جرحنا.

وبدل أن نقبل بهذه المعاناة ونعمل على «تنظيف الجرح» ليصير مصدر إبداع، ننكره بدون شفقة أو محاولة لفهم طريقة عمله. وفي الواقع نقفل الباب أمام هذا الطفل الجريح كما فعل ربما الكبار الذين جرحونا في السابق.

الأنا السامة هي أنا جبانة ترفض سبر أغوار الذات والإدراك الكامل وهي المصادر الوحيدة الممكنة للنور حتى نسير قدماً بسلام وحرية في حياتنا.

احذر عدوك الداخليَّ! كيف تتحرر من «الأنا السامة»؟

كيف نتعرف على عدونا الداخلي؟

إبدأوا باستعراض كل مجالٍ من مجالات حياتكم:

  • المهني
  • العاطفي
  • الأسري
  • الانفعالي
  • الروحي
  • الاجتماعي

لاحظوا المساحة التي يحتلونها في حياتكم اليوم. للوهلة الأولى، قد لا يكون لبعض المجالات وجود بالنسبة إلى بعضكم.

لاحظوا الشعور العفوي الذي يظهر عند التفكر بكل مجال منها، الإحباط مثلاً على المستوى المهني، النقص أو المُضمر على المستوى العاطفي، القلق على المستوى العائلي، خيبة الأمل على مستوى الصداقات... تأملوا في انعكاسات هذه المجالات: التقدم المهني مثلاً قد يحول دون رؤية التململ على المستوى العاطفي أو الفراغ على المستوى الروحي...

قد تبدو حياتكم مثالية، لكن هذا لا يعني أنكم في أحسن حال. كثيراً ما نقول لأنفسنا إنه «يجب أن نسير قدماً» من دون أن ندرك أننا في الحقيقة نهرب إلى الأمام. التقدم لا يعني المواصلة في تحمُّل الأسى بعناد أو بشجاعة الجندي. للتعّرف على الأنا السامة وبلوغ الحياة التي نحلم بها، من الأفضل أن نضع يقيناتنا جانباً بشكل مؤقت. وممّا لا شك فيه أن عملية المراجعة صعبة أحياناً.

لا تحكموا على أنفسكم

إن بعضنا يشبه سطحاً أملس لأنه يؤدي دوراً لا يدركه، وبعضنا الآخر يعيش حالة سلام داخلي لأنه متصالح مع نفسه من دون ضيق، والبعض الأخير يجني فائدة لاواعية في التلاؤم مع ما أُعطي له. الإمساك بزمام النفس من الألف إلى الياء عمل حقيقي! ولكن إن ذهبتم إلى استكشاف ذواتكم قد تجدون أن اللقاء الداخلي مثير وقد يكون مدهشاً أحياناً. لا تحكموا على أنفسكم ولا تفقدوا عزيمتكم، بل انتظروا قبل أن تستنتجوا بسرعة وكونوا فرحين لأن معرفة الذات هي بداية السعادة.

احذر عدوك الداخليَّ! كيف تتحرر من «الأنا السامة»؟

تمرين يساعدكم على مراجعة الذات

تحمل مراجعة الذات معها المفاجآت على الدوام، وقد لا تكون مفاجآت سارة لكنها محرِّرة.

سيعطيكم هذا التمرين البسيط الإحساس بأن أفكاركم أكثر وضوحاً حتى لو كان متبوعاً بموجة من الانفعالات كالغضب أو القلق.

راقبوا هذه الانفعالات من دون هلع ثم دوِّنوا ما يمكن أن يعمل بالملموس على تهدئتها، مثلاً «سأشعر أني أكثر اعتزازاً بنفسي إن بدأت بالبحث عن عمل آخر بدل أن أبقى في هذه المؤسسة التي لا تفتح لي أي أفقٍ للتقدم».

لا تخشوا الحديث مع أنفسكم، هذه النفس هي الوحيدة التي ستبقى معكم طيلة حياتكم! فلا تتجاهلوها!

تقضي المرحلة الأولى بتقييم درجة «سمّية» علاقتكم مع أنفسكم والمجال المعني بها. فقد لا تكون «الأنا السامة» موجودة في كل المجالات لحسن الحظ. بيد أننا كلٌّ واحد متكامل، والسمّ في مكان معين ينتقل بسرعة إلى كل مجالات حياتنا بما أن جسمنا ومواقفنا تستجيب مع أفكارنا ومعتقداتنا. فالإنهاك المهني مثلاً يرتد على الحياة العاطفية والأسرية...

كيف نتخلص من الأفكار السلبية؟

الأفكار السلبية التي تتآكلكم تهدر طاقتكم وحالة التعب والهبوط التي تضغط على جسدكم وتضعف جهازكم المناعي ستوطد تلك الصورة السيئة اللاواعية التي تحملونها عن أنفسكم. فكيف لا نشعر بأننا في حالة مزرية وفاقدو النشاط والاندفاع حين نكون منهكين؟ وقد يكون الماضي قد شكل في داخلنا «أنا» لا تعرف ذاتها إلا بحسب ما فُرض عليها، أي أنها صورة مزيفة عن النفس تحكم علينا بالمعاناة. هي أنا الضحية، الأنا التي لا تحب نفسها، لا يهم، فهي حالة ضيق معترف بها أم لا.

بعضهم يستشير معالجاً نفسياً وهو يحمل سوء التقدير المؤلم لنفسه وبعضهم الآخر يستبدله بعزة النفس والهرب إلى الأمام.

يتحتّم علينا بالتالي أن نتعرف إلى المجالات التي تعبّر فيها الأنا السامّة عن نفسها حتى نتمكن من البدء بتنظيف تمثلاتنا السلبية ونضع حداً لهذا التلوّث المنتشر! بعض التجارب قد جرحتنا وكان عبئها ثقيلاً على صورتنا عن أنفسنا وعن الآخرين وعن الحياة بشكل عام. وقد نجحت في صناعة «أنا» لا تحب ذاتها. ليست خطورة ما حصل هي الوحيدة التي تقرر كل شيء، فقدرة الإنسان على تنمية موقفٍ إيجابي من الناس والآخرين وعلى الحفاظ عليه تنجم عن عوامل مختلفة وقد تكون فطرية لدى بعضهم.

جروج الطفولة تحدد انفعالاتنا الحالية

تشكلت شخصيتنا انطلاقاً من الانفعالات والمشاعر التي خالجتنا حينما قمنا بأولى تجاربنا في الحياة. فإذا كانت أمّنا مثلاً قد تخلت عنّا ونحن صغار ولم يحلّ محلها أي بديل موثوق خلال الطفولة، من الأرجح أن تكبروا من دون القدرة على الوثوق بأن ثمة علاقة عاطفية دائمة ومتينة ممكنة. وبما أن مرتكزاتكم الداخلية لا تمكنكم من التعرف إلى الأشخاص الموثوقين، قد تنجذبون من دون وعي منكم إلى أشخاص خانقين ينزعون إلى الاندماج الشديد للتعويض عن الشعور بالهجران.

طبقة بعد طبقة وعلى غرار الطبقات الجيولوجية المترسبة، تشكلت شخصيتنا مع توالي التجارب وأنتجت ما نظن أنه هويتنا، من منزل الطفولة، إلى المعلمين والأصدقاء الذين صادفناهم مع خيبات الأمل والاكتشافات والخيانات والمحن ولحظات السعادة...

نحن نعيش السنة تلو السنة ونقيم العلاقات ونقوم بالأعمال والنشاطات في آلية تراكمية ونقول أننا من عاش هذا الحدث أو ذاك. في الحقيقة، ثمة يغطينا طلاء يجعلنا نفقد البصر أكثر فأكثر إزاء واقع الآخر والواقع الحاضر وهكذا ننجب أطفالاً وننسى أحياناً أننا كنا أطفالاً لتتصلب نفوسنا وتضمر ولا سبيل للخروج من هذا الوضع إلا بعملية تنظيف داخلية عميقة.

via GIPHY

كيف نتحرر من الماضي؟

من واجبنا أن نتذكر دومًا أننا لسنا نتاج ما عشناه في الماضي وأن نقطة انطلاقنا في الحياة بدءًا بوسطنا العائلي قد أعطتنا توجهًا معينًا لكنها نجحت في الحدِّ من رؤيتنا، وما نعتبره بديهيًا قد لا يكون له أي حقيقة في حياة شخص آخر.

صحيح أننا لم نخترْ بداياتنا، فبعضهم قد عاش طفولة سعيدة وآخرون قد عانوا الأمرّين، إما من أهلهم أو من ظروف بلدانهم... قد تصعِّب الظروف الماضية أحيانًا القدرة على إرساء قاعدة للتفاهم بين من كانوا يحظون بالرعاية وبين من لم يشعروا لحظة بحماية أهلهم وحبهم غير المشروط. وقد نقول في أنفسنا «هذا ما أنا عليه وأنا نتيجة ما عشته».

لكن حينما نتوقف عن مخاطبة أنفسنا بهذه اللغة الخشبية يمكننا أن نبدأ بفرز رغباتنا وبإيجاد الحل الوسط بين عقدة الدونية وعقدة الفوقية ما يمكّننا من حل نزاعاتنا مع نفسنا ومع الآخرين.
تنظيف الشخصية من الانفعالات الطفيلية والأفكار المتأتية عنها عملية ضرورية.

فإذا كانت المشاعر هي حركة الحياة ذاتها، بيد أنه يجب ألا تتسمّر مكانها. جيد أن نشعر بكل أنواع الانفعالات السلبية والإيجابية وألا نهرب من الحزن أو الغضب أو الخوف، التي تشكل مؤشرات أساسية عن حالتنا، لكن الصحة النفسية تكمن في تنوع ردات الفعل تلك وليس في سيطرة لون انفعالي دائم عليها.

أما المشاعر السلبية التي تسمّم حياتنا وتطرد الإيجابية منها فهي:

  • الخوف
  • الغضب
  • الحقد
  • الذنب
  • القلق
  • الحسد
  • الخجل
  • الكراهية
  • الاكتئاب

يضاف إليها الفرح المصطنع واللامبالاة الدائمة.

أخيراً.. أنت نتاج ما تفكر به

إن أفكارنا هي التي تخلق حياتنا، متى فهمنا هذا الأمر نأخذ مسافة مع محفزات البيئة ونصير أقل عرضة لتتقاذفنا وسائل التواصل والاتصالات والأمزجة ونستعيد حرية خياراتنا في علاقاتنا لأننا لم نعد نقبل بالانجرار نحو السلبية.

وبما أننا في أغلب الأحيان نود أن نهرب من حالة الضيق التي تعترينا، نصير معتمدين على تعويضات خارجية وهو أمر منهك لأن ما يميز الإنسان عن سائر اللبونيات هو أن معنى الحياة وحده يوفر له الطاقة.

لذا من المهم أن نجد مكانًا نتحدث فيه بصدق مع أنفسنا من دون أن نبوح بما نقوله للجميع بالضرورة. وحين نبدأ بتقييم كمية الطاقة التي ننفقها كردة فعل على تجارب ماضية ندرك أن حياتنا ليست ملك يدينا وأننا مرتبطون عاطفيًا بالماضي في حين أن باستطاعتنا أن نوظف هذه الطاقة في خلق واقع آخر مختلف عن الماضي يفتح لنا آفاق التطور.

نظن أن الواقع الموضوعي هو الذي يثير المشاعر والانفعالات كردة فعل عليه وننسى أن الفكر الذاتي هو الذي يخلق الواقع الموضوعي. وطالما بقينا متيقظين أمام الواقع المباشر لجسمنا وبيئتنا لن يتطور الوعي لدينا وسنظل في حالة تأقلم دائم واضطراب وتوتر وسلبية داخلية.

إذا كنا نريد تنظيف الجسم من السموم، لن نقوم بتناول دواءٍ مزيلٍ لها من ناحية وابتلاع كميات من الطعام المصنّع والمفعم بالمواد الكيماوية السامة من ناحية أخرى، بل سنمتنع عن تلك المأكولات ونسعى وراء الهواء الطلق والنقي من دون أن نزيد كمية الأدوية المزيلة للسموم والتي تتعب الكلى والأمعاء والكبد.

وإذا كنا نريد أن نكون سعداء يجب أولاً أن ننظف أنفسنا مما يجعلها تعيسة. ولا يكون التنظيف في العناصر الخارجية وفي العلاقات الاجتماعية وحسب ولكن يجب أن يطال الجذور العميقة في داخلنا التي جعلتنا نميل نحو الخيارات السيئة والمواقف الضارة.

علينا بالتالي أن نمتنع عن اجترار الأفكار والانفعالات التي تغذي المرارة والألم. وسيكون هذا العمل شاقًا وطويلاً بقدر ما أن الصدمات التي مررنا بها قد تصلبت وكانت سببًا لتلك الآلام، وهذا حتى ندرك أن البقاء أسيرًا في آثار الصدمة يعني البقاء في وضعية الضحية وحرمان النفس من الفرح.