الأسرة أساس المجتمع، لكن الأسرة المأزومة هي أساس الأزمات في المجتمع. وفي هذا الكتاب يدرس الكاتب الديناميات القائمة في الأسر المأزومة والتي تتسبب بهشاشة الأفراد الذين يعيشون في كنفها ليقدم بعدها قواعد الأسرة السليمة والسعيدة.
يشير هذا الكتاب ، بعنوان «الأسرة وفهم الروابط التي تجمعنا» من تأليف جون برادشو ، إلى أن العقود الأخيرة فتحت الطريق نحو إدراك جديد للأثر الذي تتركه الأسرة في نشوء الثقة بالنفس وتقديرها. وفي الوقت ذاته الذي اعترفنا فيه بتأثير الأسرة اكتشفنا أن هذا التأثير أشد أهمية مما كنا نظن، وفهمنا الآن أنه نظام اجتماعي ديناميكي يتضمن قوانينه البنيوية الخاصة ومكوناته وقواعده الخاصة به.
القواعد الأسرية الأهم تحدد كامل معنى مفهوم الكائن البشري، وتتضمن هذه القواعد معتقدات أساسية حول طريقة تربية الأطفال والتي تحددها مفاهيم الأهل ونظرتهم إلى الحياة. يكوّن الأطفال رأيهم بأنفسهم من خلال التربية التي تعطى لهم. لا شيء أهم من هذه المسألة لأن الأطفال يشكلون أكبر مورد طبيعي تحمله أي حضارة كانت. مستقبل العالم بأسره يعتمد على الإدراك الذي يحمله الأطفال عن أنفسهم وعلى الخيارات التي تنبع عنه.
غلاف كتاب الأسرة وفهم الروابط التي تجمعنا
الخجل من الذات اغتيال للروح
لكن ثمة أزمة تهدد الأسرة اليوم والقواعد العائلية التي يطبقها الأهل هي جوهر هذه الأزمة، ونقصد بها القواعد المسيئة والمعيبة التي تدمر ثقة الطفل بنفسه وتولد لديه إحساساً بالخجل من ذاته. الخجل من الذات هو أكثر التجارب إيلاماً، فهي إذلال وشعور بالفشل نتيجة تحدٍ تستحيل مواجهته. الخجل من الذات جرح داخلي يفصلنا عن أنفسنا كما يفصلنا عن الآخرين. وهو مصدر غالبية الحالات النفسية المضطربة والتي تضر بنمو وتفتح الحياة البشرية. الاكتئاب والاستلاب والشك والوحدة المؤدي إلى العزلة، مظاهر الشعور بالاضطهاد والسعي نحو الكمال والشعور بالدونية أو بالفشل والاضطرابات النرجسية كلها نتيجة الخجل من الذات الذي هو شكل من أشكال اغتيال الروح.
الخجل من الذات والإحساس بالذنب
نعيش الخجل من أنفسنا في قلب روحنا الجريحة، وهي تختلف اختلافاً جذرياً عن الشعور بالذنب. ينبئني الشعور بالذنب أني اقترفت عملاً سيئاً، أما الخجل فهو يقنعني أن ثمة شيئاً سيئاً في داخلي. يفيدني الشعور بالذنب بأني قمت بخطأ ما ويدعني الخجل أعتقد أني أنا الخطأ بحد ذاته. يكشف الشعور بالذنب لي أن ما قمت به ضرب من ضروب الشر، ويؤكد الخجل لي أني شرير من داخلي. هذا هو الفرق العميق بين الشعورين.
الخجل من الذات نتيجة الهجران
تثير سلوكيات الأهل الخجل من الذات عبر أشكال الهجران المختلفة، هذا لأن الأهل يهجرون أطفالهم بطرائق متعددة:
- حين يهجرونهم جسدياً بشكل ملموس.
- حين لا ينجحون في التعبير عن مشاعرهم الخاصة بطريقة تشكل نموذجاً لأطفالهم ولا يتركون لهؤلاء إمكانية التعبير عن مشاعرهم.
- حين لا يشبعون حاجات أطفالهم التي يستند نموهم إلى علاقة تبعية تجاههم.
- حين يسيئون معاملتهم سواء أكان على المستوى البدني أو الجنسي أو النفسي أو الروحي.
- حين يستخدمون أطفالهم لإرضاء حاجاتهم غير المشبعة.
- حين يستخدمون أطفالهم لتوطيد علاقتهم الزوجية.
- حين يخفون أسراراً معيبة إزاء العالم الخارجي وينكرونها بطريقة تجبر الأطفال على إخفاء هذه الأسرار من أجل أن يحفظوا التوازن الأسري.
- حين يحرمون أطفالهم من وقتهم واهتمامهم ورعايتهم ونصائحهم.
- حين يتصرفون بطريقة يعاقب عليها القانون.
حاجات الأطفال لا تنتهي، بمعنى أنهم بحاجة إلى أهلهم طيلة مرحلة طفولتهم، والأطفال المهجورون يجدون أنفسهم معزولين، وبعضهم قد يضطر إلى تحمل أعباء أهله. يدمر الهجران كل ما هو ثمين وفريد لدى كل طفل، فهو طفل يعاني شعور الوحدة والضياع ويستبطن هذا الهجران ليحوّله إلى شعور بالخجل من الذات.
الأزمة ترتكز على راشدين ليسوا سوى أطفال - راشدين يربون أطفالاً سيصبحون بدورهم أطفالاً - راشدين
نشوء «أنا» مزيفة
شخصية الطفل التي يشوبها الخجل تجعل حياته مع نفسه حياة مؤلمة، وفي سبيل التعويض عن هذا الشعور وتأمين البقاء، يخلق الطفل لنفسه «أنا مزيفة». وتصنع هذه الأنا قناعاً مفعماً بالدفاعات التي تبعد الأنا الحقيقية عن معاناتها وعن وحدتها الداخلية. وبعد مرور سنوات على هذه الواجهة الخارجية وهذا الزيف يفقد الطفل اتصاله مع ذاته بعد أن فقدت أي إحساس. وعملية التمويه هذه تخنف نمو تقدير الذات في داخله.
الأزمة أخطر بكثير مما نظن عموماً، لأن الأهل، خلال تربيتهم لأطفالهم، يخفون بشكل سيئ «أناهم» المستندة إلى الخجل المستبطن. وبالتالي، لا تعتمد الأزمة فقط على الطريقة التي نربي فيها أطفالنا، بل ترتكز أيضاً على أن أفراداً كثيرين، يبدون راشدين ويتحدثون ويتصرفون كراشدين، ليسوا في الحقيقة سوى أطفالٍ - راشدين. وكثيراً ما نرى هؤلاء على رأس مدارسنا ومؤسساتنا وهم من ينشئون العديد من أسرنا. إنهم أطفال - راشدون يربون أطفالاً سيصبحون بدورهم أطفالاً-راشدين.
القواعد الأسرية لتربية الطفل
القواعد الخاصة بتربية أطفالنا هي أكثر القواعد قدسية، فالتربية تشدد عليها وكذلك النظام المدرسي يوطدها. أما مراجعة هذه القواعد فهي تعتبر من الممنوعات، لذا نقول إن الأزمة مقلقة لأن نتائجها غاية في الجدية. أما إنكارها فهو جماعي ترافقه قاعدة الصمت. وقد تجذرت هذه القاعدة ضمن القواعد التي تحكم التربية: لا يحق للأطفال أن يتكلموا ما لم يوجه لهم الحديث، يحق للأطفال أن يكونوا مرئيين ولكن غير مسموعين، على الأطفال أن يطيعوا الكبار، وأي كبير كان، من دون أي سؤال... وهكذا فإن الطفل المطيع القابع في داخل كل بالغ منا سينشيء أسرة ينقل إليها هذه القواعد بدوره، بمعنى أن هذه القواعد تنتقل من جيل إلى جيل ليرث الأطفال «أخطاء الآباء» حتى الجيل الثالث أو الرابع.
الأزمة مربكة، لأن إحدى القواعد المكرّسة تنص على أنه لا ينبغي أن نراجع أي من القواعد المطبقة ويجب ألا نناقشها لأن أهلنا سيواجهون العار، ولا يعود أمامنا سوى أن نتخطى هذه القاعدة لأنه إن كنا ممنوعين من نقاشها سيظل الطريق مسدوداً. لكن هذا التخطي لا يتم دائماً بالطريقة السليمة، لأن الخجل المصحوب بالوحدة وفقدان الإحساس الداخلي يغذي نمط حياة مبني على السلوكيات الإكراهية والإدمانية. وبما أن حاجات الطفل المخبأة في داخل كل بالغ لا يمكن أن تجد إشباعاً لها، فهو سيظل على الدوام غير راضٍ. وفي حياتنا كراشدين، يستحيل علينا أن نرجع أطفالاً وأن نجلس في أحضان أمّنا أو نذهب إلى الصيد مع أبينا. وعلى الرغم كل الجهود الحثيثة التي نبذلها في محاولة منا لتحويل أطفالنا وأزواجنا إلى أمهات وآباء لنا، فإننا لن نبلغ هدفنا أبداً ولا يمكننا أن نرجع إلى مرحلة الطفولة.
الخجل من الذات يغذي السلوك الإكراهي وهذا الأخير بمثابة طاعون قاتل يضعنا تحت سيطرته. نرغب في مزيد من المال والعلاقات والطعام والشراب وطفح الأدرينالين والتسلية والامتلاك والنشوة... وحتى لو بلغنا كل ما نشتهي فإن أي شيء منه لن ينجح في جعلنا نشعر بالرضى والاكتفاء.
تجتاح آلامنا حياتنا اليومية، تتحول مشكلاتنا نحو مسائل كالطعام والشراب وطريقة العمل والنوم ودرجة الحميمية ووسائل التسلية... ننخرط في حركة موتورة من الانشغالات والتسالي إلى درجة أننا لا نشعر أبداً بعمق جراحنا ووحدتنا وغضبنا أو حزننا. سلوكياتنا الإكراهية تخفي مدينة ضائعة متجذرة في أعماقنا، في ذاك الركام حيث يختبئ طفلنا الداخلي.
نحن نرى أن السلوك الإكراهي/الإدماني هو علاقة مرضية تتصل بأي تجربة تؤثر في المزاج وتحمل معها تداعيات خطيرة على الصحة. هذا التعريف الجديد يدفعنا إلى النظر بطريقة متجددة إلى كل أولئك الذين يعانون مشكلات إدمان سواء أكان على المخدرات أو الكحول أو القمار أو حتى العمل. وهي تساعدنا على الاعتراف بأن نتائج العلاقة المحطمة مع الأهل هي جذر الخجل من المستبطن من الذات.
فالجسر الذي كان يربطنا بمن يفترض بهم أن يكونوا نماذج بقاء بالنسبة إلينا قد انقطع، ما يضاعف من نزعتنا نحو عيش وضعيات تبعية ومواجهة مشكلات في علاقاتنا مع الآخرين. فهذه العلاقات المبنية على الهجران الذي أدى إلى شعور الخجل من الذات هي التي تشكل أساس سلوكياتنا الإكراهية.