21 مايو 2024

على لائحة التراث العالمي.. "دير القمر" دُرّة جبال الشوف وعاصمة لبنان القديم

فريق كل الأسرة

على لائحة التراث العالمي..

قبل قرون بعيدة، قصد لفيفٌ من الرّهبان جبال الشوف وسط لبنان، وحطّوا رحالهم فوق أحد المرتفعات، بمحاذاة انقاض دير يتوسط غابة تقع في أعالي تلك المرتفعات، وشرعوا في تجديد بناء الدير في الليل، في ضوء القمر، لاضطرارهم نهاراً للعمل في أنحائه كسباً للقمة العيش.

مرّت الأيام، فقام أول دير للمسيحيين في مرتفعات جبل لبنان، ودرجت من يومها تسمية «دير القمر» على البلدة التي انتشرت منازلها ومساكنها في الأنحاء الواسعة المحيطة بذلك الدير، في عمق الشوف اللبناني.

على لائحة التراث العالمي..

لم تكتف «دير القمر» بمفارقة عمرانها في ضوء القمر، وإنما رشّحها غِناها بالشجر والينابيع، وجمال بقاعها إلى أن تصبح «درّة» الجبل اللبناني، منذ أوائل القرن السادس عشر، زمن تحولها عاصمة للإمارتين، «المعنية» و«الشهابية»، اللتين حكمتا لبنان، حتى مشارف نهاية القرن التاسع عشر.

على لائحة التراث العالمي..

ويصح القول في «دير القمر» إنها متحف للتاريخ الحضاري والإنساني، فهذه البلدة تحفة من الفن الهندسي والمعماري، وقد أدرجت عام 1964 على لائحة التراث العالمي، فهي كانت عاصمة الأمراء، اجتمعت في طيّاتها معالم التاريخ النادرة، ومراكز العبادة الأثرية، ومقرات القرار، وقصوره، وصولاً إلى مواقع الحضارة، وجمال العمارة، والطبيعة الخلّابة، بجبالها وأوديتها المطلة على البحر.

على لائحة التراث العالمي..

ساحة دير القمر أو ساحة الميدان قديماً
ساحة دير القمر أو ساحة الميدان قديماً

تبعد «دير القمر» نحو 35 كلم عن بيروت، العاصمة اللبنانية، ويتطلب الوصول إليها المرور عبر شريط أخضر من الجبال والأودية، يخترقه «ملتقى النهرين» في مشهد متجانس يمتد من شاطئ البحر، إلى أعالي القمم. ترتفع بين 800 و1000 م عن سطح البحر، وهي غنية بالينابيع، وتكسوها أشجار الصنوبر، والشربين، ولها شهرتها بالزيتون، وزيته، وبإنتاج الصابون.

وتحيط بهذه البلدة سلسلة بلدات عريقة بتاريخها، وتراثها، وآثارها، وعمرانها، في طليعتها بيت الدين، وقصرها الشهابي التاريخي الذي تحول إلى مقر صيفي لرئاسة الجمهورية، وفي ربوعه تقام سنوياً مهرجانات دولية. وبين «دير القمر» وبيت الدين يستوقفك قصر موسى المعماري الذي يؤرّخ للحياة اللبنانية الجبلية في عهد الإمارتين، سابقتي الذكر.

سراي الأمير يوسف شهاب، البلدية حالياً
سراي الأمير يوسف شهاب، البلدية حالياً

قصر الأمير فخر الدين المعني الكبير، المركز الثقافي الفرنسي حالياً
قصر الأمير فخر الدين المعني الكبير، المركز الثقافي الفرنسي حالياً

وتشير الناشطة السياحية في دير القمر، أوريانا زيادة، إلى أن هذه البلدة كانت مقراً لحكم إمارة جبل لبنان في ظل الأمراء المعنيين، والشهابيين، وأن لها مكانتها عند اللبنانيين، لأن منها انطلق الكيان اللبناني، وتشكّلت نواة الدولة في ظل الأمراء، المعنيين، والشهابيين.

وتروي أن المعنيين وفدوا من بعقلين إلى دير القمر، ومع فخر الدين الأول «سلطان البر» انطلقت المسيرة الكيانية والعمرانية، لتستمر مع نجله قرقماز، إلا أن وتيرتها تسارعت مع فخر الدين الثاني الكبير، سلطان البر كذلك، وأشهر الأمراء اللبنانيين، والذي يعتبر مؤسس لبنان الحديث، ففي عهده دخل إلى لبنان فن العمارة الإيطالية، ما تجلى ولا يزال حتى اليوم في كل أنحاء دير القمر، كذلك على مساحة لبنان، وقد جلب معه من توسكانا زراعة الصنوبر المثمر.

ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن منتجات الحرير في دير القمر في تلك الفترة راجت في الأسواق الأوروبية، ومع الأمراء الشهابيين ترسخت المعادلة نفسها، حتى عهد بشير الشهابي الثاني الذي شيّد قصر بيت الدين وأقام فيه، ونقل حكم الإمارة إليه.

جامع الأمير فخر الدين المعني الأول، أول جامع في جبل لبنان
جامع الأمير فخر الدين المعني الأول، أول جامع في جبل لبنان

على لائحة التراث العالمي..
فندق دير الأمراء

أما الصورة الأثرية في وسط عاصمة الأمراء، فتشرحها زيادة بقولها إن «ساحة الميدان» هي واسطة العقد في دير القمر، وتبدأ بجامع فخر الدين الأول، وتتوسطها بركة مياه (منبعها من الصفا قرب الباروك في أعالي الشوف)، ويمتد فوقها قصر فخر الدين الثاني، ثم قصر الأمير أحمد الشهابي، وإلى الجهة الثانية سرايا الشهابيين التي تحولت إلى القصر البلدي لاحقاً.

ويعتبر جامع فخر الدين الأول أول جامع في جبل لبنان، وقد شيد عام 1493، ويعتبر نموذجاً معبّراً عن فن العمارة الإسلامي، وتميّز بمئذنته المؤلفة من 8 زوايا، والتي يمكن الوصول اليها عبر سلم حجري من 50 درجة. وخلف الجامع قصر الأمير يونس، شقيق فخر الدين الثاني، ويحتوي مدخله على زخارف جميلة، وتزيّنه 3 أقواس، لكل منها طرازها الخاص، والى جانبه سوق«السكافة»، التي بنيت في القرن التاسع عشر، وهي تضم في الوقت الراهن عدداً من المحال التجارية، والمحترفات الفنية.

متحف ماري باز
متحف ماري باز

على لائحة التراث العالمي..

ويتشكل قصر فخر الدين الثاني من 3 طوابق، بقي منها إثنان، الأول هو مبنى القيصرية، أو خان الحرير، وقد بني عام ،1595 وفتح طابقه الأرضي أمام عامة الناس، بينما الطابق الثاني يتألف من فناء تتوسطه بركة ماء، وتحيط به غرف خصصت للإقامة، وتخزين البضائع، وكان مغلقاً ومخصصاً للأمراء، وتحول هذا المبنى-القيصرية اليوم إلى فرع للمركز الثقافي الفرنسي، وتنظم فيه مهرجانات، ونشاطات، ومعارض، وندوات ثقافية، وفنية، وتربوية، وترفيهية.

أما القسم الثاني من قصر فخر الدين الثاني فقد انشأ فيه اللبناني سمير باز، في تسعينيات القرن الماضي، متحف الشمع، وسماه باسم والدته ماري باز، ويحتوي المتحف على تماثيل لأكثر من 70 شخصية لبنانية وعربية وعالمية، سياسية، وعسكرية، وفكرية، وثقافية، وفنية، تروي تاريخ لبنان منذ عام 1512 حتى اليوم. وكان والد سمير باز هو الذي اشترى هذا الجزء من القصر عام 1920، وراح يرمّمه ويعتبر المتحف داخله من اهم المتاحف في لبنان والعالم.

قصر الأمير أحمد شهاب
قصر الأمير أحمد شهاب

والى جانب القيصرية والمتحف، وفي مكان أعلى، يقع الكنيس اليهودي، ومنزل فؤاد افرام البستاني، الذي يقال إن بشير الشهابي الثاني بناه من أحجار الطابق الثالث لقصر فخر الدين، ووضعه في تصرف مستشاره الشاعر نقولا الترك، والى يمين المتحف يقع قصر الأمير احمد شهاب المميز بجمال بوابته، وكشكه الخشبي (أو مشربيته)، والذي يطل على ساحة البلدة.

على لائحة التراث العالمي..

وقبالة الساحة شريط أثري شاهد على تاريخ عريق يضم القصر البلدي الذي كان السرايا الشهابية، وقد بناها الأمير يوسف شهاب، وأقام فيها بشير الشهابي الثاني، حتى انتقاله إلى بيت الدين. ويتميّز القصر البلدي ببوابته التي كان قسمها العلوي يفتح للأمير، أما عامة الناس فكانوا يدخلون من قسمها الأقل ارتفاعاً، وفي فنائه بالداخل أقيم مقر المحكمة سابقاً، وأقيم في جهته الثانية كشك مميز (أو مشربية) يطل على كنيسة سيدة التلة، التي بنيت على أنقاض معبد فينيقي، وسائر المشهد الأخضر في الشوف.

وإلى جانب القصر البلدي تقع قاعة العامود، وكان الأمير ملحم الشهابي شيّدها، وهي كناية عن تحفة من العمارة الأثرية تتصل ببيت للرهبان الذي كانت والدة الأمير يوسف شهاب أنشأت تحته أول مدرسة في دير القمر.

على لائحة التراث العالمي..

ويلفت ادغار رنو، وهو مهندس داخلي من دير القمر، إلى أنه، إلى جانب ساحة الميدان والقصور والأبنية التراثية المحيطة بها، تنتشر في دير القمر القصور، والمنازل، والكنائس الأثرية، وتربط بين معظمها أدراج مرصوفة بالأحجار التي بنيت على الطراز المعماري التوسكاني. ويشير رنو إلى أن هذه الأدراج بنيت أساساً بأحجار جلبها فخر الدين الثاني معه من عكار بشمال لبنان، بعد عودته من منفاه الأوروبي، ويفصل بينها ممر أقل ارتفاعاً منها بما بين 15 إلى 20 سم، حيث يمكن للمياه أن تجري، وللحيوانات أن تمر، وأن تنقل البضائع بواسطتها.

على لائحة التراث العالمي..

أما الطراز المعماري لدير القمر الأثرية والقديمة، دائماً حسب رنو، فهو إيطالي بأغلبيته العظمى، من السطوح القرميدية الحمراء، إلى القناطر، والبناء الحجري الخالص، رغم أن المندلون، الذي يعود إلى زمن المماليك، ينتشر على نطاق واسع في هذه البلدة، وأن «المشربية» هي فن عمراني عثماني مميز. كما تتميز مداخل الكثير من القصور الأثرية بأحجار بيضاء، وصفراء، ويعلوها رمز الشهابيين الذي يتألف من السبع ذي الشاربين، والحبل على عنقه، في إشارة إلى القوة والقدرة، بينما كانت القرنفلة رمزاً للمعنيين، وهي تشير إلى الانتصار.

ويؤكد رنو أن دير القمر باتت مقصداً للزوار والسياح اللبنانيين، والعرب، والغربيين، على مدار السنة، حيث تقام في ساحتها، وعلى أدراجها، وفي مختلف أنحائها، مهرجانات، ونشاطات، وفعاليات ثقافية وسياحية وتراثية، خصوصاً وأن دير القمر تشتهر بأعمالها الفنية، وإنتاجها الحِرفي، واليدوي، والمونة، بدءاً، وفي طليعة أصنافها لبنة «قمبريص».

على لائحة التراث العالمي..

وفي الإطلالة على التاريخ الحديث، فقد خرج من دير القمر رئيس الجمهورية الراحل كميل شمعون، إلى جانب كوكبة من السياسيين، والقادة، والمفكرين، والباحثين، والفنانين، والإعلاميين، من داوود عمون أحد مؤسسي دولة لبنان الكبير، إلى أوغست باشا أديب، أول رئيس حكومة للبنان في عهد الانتداب، إلى مفكري عائلة كرم في طليعتهم النقيبان الراحلان عصام كرم للمحامين، وملحم كرم للمحررين الصحفيين.

ومن دير القمر خرج طبيب أدولف هتلر، هنري شاوول نعمة، وأحد مؤسسي الجامعة اللبنانية، وأول رئيس لها فؤاد افرام البستاني، الذي هو كذلك سياسي، ومؤرخ، وأديب، ومن كبار المثقفين، وأحد أهم نقاد الأدب العربي. ومن مشاهير الفن والرسم الكلاسيكي في دير القمر الرسام الكلاسيكي الراحل أسعد رنو الذي اكمل اختصاصه في ظل حكم فرانكو في إسبانيا، قبل الحرب العالمية الثانية، ويسعى نجله ادغار لإنشاء متحف للرسم الكلاسيكي في منزل العائلة ليكون، والحالة هذه، أول متحف من نوعه في لبنان، وستعرض فيه أعمال أسعد رنو.

اقرأ أيضاً: بلدات جبل لبنان.. مهرب الباحثين عن البرودة والجمال في عز الصيف

* بيروت: شانتال فخري