حروب وصراعات.. انهيارات اقتصادية.. مجاعات.. دمار، وكوارث طبيعية. ثمّة الكثير من الأسباب التي تدفع سكان بعض المدن إلى هجرها، وتركها للأشباح تقطنها، فتصبح صورة من ماضٍ كانت فيه الحياة ابتسامة تزيّن مواطن بشرٍ على خريطة العالم.
أطلال وخراب
أحياناً، يمرّ الزمان حاملاً معه أطيافاً وذكريات، ضحكات أطفال، ولهاث كبار.. ثمّة مدن صاخبة كانت تعجّ بالحياة، ولم يدرِ سكانها أنهم سيرحلون عنها حاملين معهم ذكرياتهم، وتاركين خلفهم آثاراً قد لا تمحوها السنون.
في العالم، خلَّف الزمن وراءه مدناً كثيرة، أصبحت مهجورة بعدما كانت مأهولة بألوان الحياة، فتحوّلت إلى حكايات، بعضها من نسج الخيال، وبعضها الآخر مبنيّ على معلومات سطّرتها الأيام قبل رحيلها.
إذا كنت أيّها القارئ ممّن يحبّون المغامرة، ولا يهابون الأشباح، أو إذا كنت قادراً على دخول بعض هذه المدن المهجورة، حيث تصفر الرياح، وتتراقص نقوش الذكريات أطيافاً على الجدران، فهيّا معنا لنعرّفك إلى أكثر هذه الأماكن شهرة، ولكن تذكّر؛ عليك أن تتحمّل مسؤولية شجاعتك!
1- «كولمانسكوب» في ناميبيا:
من مدينة الألماس إلى مدينة الأشباح، «كولمانسكوب» مدينة تائهة في قلب صحراء ناميبيا، على بعد 850 كيلومتراً، إلى الجنوب الغربي من العاصمة ويندهوك.. فما قصتها؟ ولِمَ سكنتها الأشباح بدلاً من البشر؟
في مطلع القرن العشرين، اكتشف أحد عمال السكك الحديدية قطعة ألماس في القرية، فهُرعت عائلات المستعمرين الألمان لتُقيم في المكان. لكنهم لم يكونوا يعلمون أنهم سيهجرون المدينة الماسيّة بعد الحرب العالمية الأولى، وتراجع أسعار الألماس، وأنهم سيتركونها خلفهم بعد اكتشاف منجم ألماس آخر في جنوب البلاد، يدرّ عليهم الأموال الكثيرة، فظلت المدينة وحيدة بلا ناس، تحضن كل يوم رمال الصحراء، وذكريات الماضي، مع قليل من صور ثبتت على الرغم من قسوة الزمن.
2- «بودي» في الولايات المتحدة:
تقع مدينة «بودي»، أو «مدينة الأشباح»، شرق سلسلة جبال سييرانيفادا، في كاليفورنيا، وهي إحدى مدن التاريخ التي شهدت ازدهاراً سريعاً، تبعه انحدار أسرع.
تأسست «بودي» عام 1859 كقرية لتعدين الذهب، وبلغت ذروة ازدهارها في عام 1880، لتكون ثاني أكبر مدينة في كاليفورنيا، فقد بلغ عدد سكانها 10000 نسمة، موزعين في 2000 منزل. وكان فيها إلى جانب المنازل مدارس، ومصارف، وفنادق، وسجون.
وفي عام 1881، بدأت قرية الذهب بالانهيار، وتوقفت أنشطة التعدين فيها كليّاً، بعد حرائق كارثية نشبت عام 1932، فهجرها سكانها الذين لم يشهد عليهم اليوم سوى ما بين 5 إلى 10% من منازل صمدت في وجه الزمن، وبقيت على حالتها الأصلية بين الأنقاض، والحطام.
وفي عام 1961، صُنفت «بودي» معلماً تاريخياً وطنياً، وتحوّلت إلى حديقة تاريخية عام 1962، وهي اليوم مقصد للسياح الذين يتجنبون الحصول على أيّ من مقتنياتها، خشية لعنتها!
3- «أورادور سور غلان» في فرنسا
«أورادور سور غلان» هي أكثر من مجرّد مدينة أشباح في فرنسا، فهي القرية الشهيدة، كما يطلق عليها الفرنسيون. فقد كانت تلك البلدة الصغيرة التي تقع على بعد 23 كم، شمال غرب ليموج، في الواقع مسرحاً لمذبحة كبيرة إبّان الحرب العالمية الثانية، نفذها 200 عنصر من قوات «فافن إس إس» الألمانية، في العاشر من يونيو عام 1944، وقتلوا سكانها البالغ عددهم آنذاك 643، باستثناء عشرة نجوا بطريقة ما من الحريق، وتظاهروا بالموت حتى غادرت قوات الأمن الخاصة القرية التي دُمرت كليّاً، ولم يبق منها إلا آثار تشهد على تلك المجزرة. وقد صنفت «أورادور سور غلان» كمعلم تاريخي عام 1946، ويزورها، سنوياً، قرابة 300 ألف سائح.
4- «كراكو» في إيطاليا:
تقع مدينة «كراكو» في مقاطعة «ماتيرا»، في إقليم «بازيليكاتا» في إيطاليا، وهي مدينة مهجورة تحوّلت إلى مدينة أشباح بعدما اضطر آخر سكانها إلى النزوح عنها عام 1980، في أعقاب زلزال إيربينيا.
وكانت المدينة، التي بنيت على قمة شديدة الانحدار، قبل مئات السنين، قد تعرّضت لسلسلة انهيارات أرضية نجمت عن أعمال الصرف الصحي، وبسبب الظروف الزراعية الرديئة، اضطر أكثر من 1300 من سكانها بين عامي 1892 و 1922 إلى المغادرة إلى أمريكا الشمالية.
وشيئاً فشيئاً، تحوّلت البلدة الخلّابة إلى مسكن للأشباح، يزورها اليوم السيّاح ليشهدوا غياب الحياة في مدينة غامضة يقصدها المخرجون لتصوير مشاهد كثيرة من أفلامهم.
5- جزيرة «هاشيما» اليابانية:
جزيرة «هاشيما»، معروفة أيضاً باسم «جونكانجيما»، أو «جزيرة السفينة الحربية»، وهي من أشهر جزر «ناغازاكي» غير المأهولة البالغ عددها 505 جزر. فما حكايتها؟
في عام 1887، تأسس في الجزيرة منجم فحم تحت البحر، ظل يعمل حتى بداية عام 1974، عندما بدأ احتياطي الفحم بالنضوب، فأُغلق المنجم، ورحل جميع العاملين فيه، وكل المقيمين في الجزيرة، فظلّت مهجورة لثلاثة عقود. وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، أثارت الجزيرة اهتمام السيّاح لما تحويه من آثار تاريخية.
وشدّت الجزيرة، التي كان سكانها يعيشون فيها جحيماً لا يطاق بسبب الأعمال القسرية في المنجم، أولئك الباحثين عن المغامرات، وتتبّع حركات الأشباح، وفي يوليو من 2015 صنّفتها «اليونيسكو» كموقع تراث عالمي.
6- «بريبيات» في أوكرانيا:
تقع هذه المدينة الأوكرانية على بعد ثلاثة كيلومترات من محطة تشيرنوبيل للطاقة النووية، وهي شاهد، حيّ- ميّت، على ما خلّفته الكارثة التي وقعت في أبريل عام 1986، والتي تمّ إثرها إجلاء السكان البالغ عددهم آنذاك 50 ألف نسمة، ومعظمهم من الشباب، فخلت «بريبيات» بعد كارثة تشيرنوبل من كل أثر للحياة لتصبح من أكثر مدن العالم رعباً.
ومع تراجع النشاط الإشعاعي في المنطقة بعد الكارثة، صارت المدينة مقصداً للسياح الذين يأتون إلى مكان المأساة، حيث نمَت نباتات جديدة لتعانق المنشآت المتهالكة من ملاعب، وأحواض سباحة، وصالة للألعاب الرياضية، ومتنزه ترفيهي لم يتم افتتاحه قط.
7- «سيويل» في تشيلي:
مدينة «سيويل»، أو مدينة التعدين، معروفة أيضاً باسم «مدينة الدرج»، تقع على ارتفاع ما يزيد على 2000 متر فوق مستوى سطح البحر، في جبال الأنديز.
شهدت المدينة عصرها الذهبي في مطلع القرن العشرين، عندما سمحت الحكومة التشيلية بالتنقيب في «التينيني»، أكبر منجم للنحاس تحت الأرض في العالم. وبذلك أصبحت «سيويل» أول مدينة أنشأتها شركة تعدين في تشيلي، المُصدّر الرئيس لمعدن النحاس في العالم.
وفي ظل عدم وجود الطرق المسطحة، جرى تشييد درج عملاق يمكّن العمال من الوصول إلى محطة سكة الحديد، غرست على جانبيه الأشجار، وزرعت النباتات، فأصبح المكان مقصداً للعائلات والنزهات.
بعد فترة وجيزة، ازدهرت «سيويل»، وشهدت بناء أكثر من 100 مبنى لإيواء عمال المناجم، فضلاً عن تشييد مستشفيات، وكنيسة، ومدارس، ونوادٍ ترفيهية، ومسارح، وصالات بولينغ، وحمام ساخن. فتزايد عدد سكانها حتى وصل إلى 15 ألف نسمة.
وبحلول نهاية الستينيات، جرى تأميم صناعة النحاس فأصبحت المدينة مُلكاً للدولة، الأمر الذي حدا بمعظم الأهالي إلى هجرتها والاستقرار في «رانكاغوا»، حيث ظروف الحياة أفضل.
و«سيويل» اليوم غير مأهولة، وهي مدرجة ضمن مواقع التراث العالمي «لليونيسكو»، وزيارتها تشمل جولة في المنجم، والمشي عبر القرية فقط.