16 نوفمبر 2022

أسرار النوبة القديمة في مصر وأهم معالمها السياحية

محرر متعاون - مكتب القاهرة

أسرار النوبة القديمة في مصر وأهم معالمها السياحية

تنام مئات من العجائز في قرى النوبة البعيدة جنوب مصر على حلم وحيد لا يبرح ذاكرتهم منذ عقود، بالعودة إلى ديارهم القديمة حيث مرابع الصبا والطفولة التي غمرتها مياه النيل منذ بدايات القرن الماضي، والتي لم يتبق منها اليوم سوى بعض ذكريات، ونوبات حنين لا تزال عصية على النسيان.

أسرار النوبة القديمة في مصر وأهم معالمها السياحية

تمتد عشرات من قرى النوبة الجديدة على شواطئ بحيرة السد العالي، لتشكل بمعمارها النوبي المميز وألوانها المبهجة ما يشبه لوحة فنية رائعة الجمال، تجذب طوال فصل الشتاء في كل عام آلافاً من الزائرين الذين يحرصون على قضاء بضعة أيام في ضيافة أهلها الطيبين، بعدما تحول كثير من تلك البيوت إلى احتراف مهنة السياحة البيئية.

أسرار النوبة القديمة في مصر وأهم معالمها السياحية

حيث يقدم للزائر فرصة حقيقية للمعايشة في العديد من المناطق التي لا تزال تحافظ على تراثها الطبيعي والحضاري، ويشارك فيها الزائر سكان تلك المناطق تفاصيل حياتهم اليومية.

أكثر القرى جذباً للسياح

أسرار النوبة القديمة في مصر وأهم معالمها السياحية

وتعد القرى النوبية الجديدة، الواقعة جنوب جزيرة فيلة، من أكثر القرى التي يقبل عليها السائحون من مختلف الجنسيات، حيث تتميز بروعة البناء وتناسق العمارة، التي تعكس بوضوح مفردات العمارة النوبية القديمة، من ناحية البيوت الملونة المبنية بالطوب اللبن الممزوج بجريد النخيل وجذوعه، وهي المواد الأساسية التي كانت تستخدم منذ قرون بعيدة لبناء الدور، في القرية التي لا يزيد تعداد سكانها على نحو عشرة آلاف نسمة.

أسرار النوبة القديمة في مصر وأهم معالمها السياحية

منزل الحاج ناصر الزبير

يستقبل منزل الحاج ناصر الزبير، مئات من السائحين العرب والأجانب في فصل الشتاء من كل عام، وهو ما يتعين معه أن ترفع أسرته المكونة من عشرة أفراد، استعداداتها للدرجة القصوى، لاستقبال الضيوف.

أسرار النوبة القديمة في مصر وأهم معالمها السياحية

ويقول ناصر «يقوم الكثير من السياح بالتجول داخل بيوت القرية للتعرف إلى كل شبر فيها، ولا يخفون ولعهم بتلك العمارة وجمال البيوت البسيطة التي بنيت من الطمي والحجر، وخصوصاً الأطعمة النوبية التي لا يزال كثير من البيوت تقدمها لضيوفها، مثل «الويكة» وهي طبق البامية المصري الشهير بالطريقة النوبية، إلى جانب الملوخية النوبي».

أسرار النوبة القديمة في مصر وأهم معالمها السياحية

كما لا يخلو بيت نوبي من المشروبات الساخنة، التي تتراوح بين الشاي بالنعناع الأخضر، ومشروب حلف البر، وهو أحد من المشروبات الشهيرة في صعيد مصر، ويستخدم لعلاج العديد من أمراض الكلى، إلى جانب حلف الليمون والكركديه ومشروب الدوم البارد والساخن.

أسرار النوبة القديمة في مصر وأهم معالمها السياحية

وتمثل تلك المشروبات إلى جانب الأطعمة النوبية الأخرى، إحدى مفردات الهوية بين النوبيين، إذ تحرص المرأة النوبية على الحفاظ على هذا التراث الذي تتوارثه الأجيال، مثلما تحرص على إتقان العديد من المشغولات اليدوية، ورسم الحناء وغيرها من المهارات الفردية التي تتميز بها نساء النوبة، وتعكس مدى تمسكهن بالعادات والتقاليد، والثقافة النوبية الأصيلة.

أسرار النوبة القديمة في مصر وأهم معالمها السياحية

تجلس الحاجة فاطمة البالغة من العمر نحو تسعين عاماً، على ربوه عالية في قرية غرب سهيل، وتلقي ببصرها إلى أبعد نقطة على صفحة مياه النهر، وهي تتذكر تلك الأيام الخوالي مطلع القرن الماضي عندما كانت القرى النوبية تمتد على شواطئ النيل في تناغم بديع، «كانت هذه المنطقة تضم ما يزيد على 39 قرية تسكنها القبائل النوبية، قبل أن تشرع الحكومة المصرية في عام 1902 في بناء خزان أسوان، وهو ما أدى إلى زيادة منسوب مياه النهر، فلم يتبق من تلك القرى سوى إحدى عشرة قرية، تضررت جزئياً من بناء الخزان».

وفي ستينات القرن الماضي، وبعد بناء السد العالي، طالت مياه بحيرة ناصر، ما تبقى من قرى النوبة القديمة، فقررت الحكومة المصرية ترحيل السكان قبل موعد تحويل مجرى نهر النيل.

أسرار النوبة القديمة في مصر وأهم معالمها السياحية

تتذكر الحاجة فاطمة أسماء القرى النوبية القديمة، مثلما تتذكر أسماء العشرات من أحفادها، وتتحدث بحنين بالغ عن تلك القرى التي غمرتها مياه النيل، عند بناء الخزان، ومن بعده السد العالي، «رغم نقل أكثر من أربعين قرية بنفس أسمائها القديمة، إلى صحراء كوم امبو، ورغم أن الدولة بنت لنا وحدات صحية وتعليمية، ومدت القرى الجديدة بالمرافق التي لم تكن موجودة في النوبة القديمة، إلا أن الحنين إليها لا يزال يسكن وجدان كثير من النوبيين، حتى الجيل الجديد منهم، حيث كان المجتمع النوبي يضم ثلاث قبائل كبرى رئيسية، أكبرها العرب الذين كانوا يسكنون في الوسط، ويتحدثون العربية إلى جانب اللغة النوبية الأصلية، ثم الكنوز والفاديجكا في الجنوب، اللتين تقول عنهما الحاجة فاطمة «كانت قبيلة الفاديجكا تسكن في المنطقة الجنوبية، وهم يتحدثون بالنوبية القديمة، ولهم لهجة خاصة بهم تسمى لهجة الفاديجكا، وهي من اللهجات التي تنطق ولا تكتب، أما قبيلة «الكنوز» فكان أهلها يقطنون المنطقة الشمالية، وهم يتحدثون باللهجة «الكنزية»، وهي واحدة من اللهجات المهجورة، إلى جانب اللغة الماتوكية، وهي من اللغات المنطوقة أيضاً».

التراث النوبي رغم كل الصعوبات لا يزال عصياً على الاندثار


أسرار النوبة القديمة في مصر وأهم معالمها السياحية

قضى الخبير السياحي شكري سيف الدين، سنوات من عمره يدرس تاريخ تلك المنطقة، ويقول عن تلك المدن المنسية «تقسم النوبة القديمة إلى قسمين، الأول وهو النوبة السفلى التي تمثل النوبة المصرية، فيما تمثل النوبة العليا هؤلاء السكان الذين ينتمون جغرافياً إلي دولة السودان الشقيق.. لم تكن الهجرات النوبية بعد بناء خزان أسوان ثم السد العالي، هجرات إجبارية كما يصور البعض، ولكنها كانت هجرات طبيعية فكثير من النوبيين هاجر طواعية إلى بعض مدن الصعيد القريبة، وأقاموا مجتمعات لهم هناك، في إسنا وقنا، وآخرون فضلوا البقاء في صحراء كوم امبو، بالقرب من قراهم القديمة التي غمرتها مياه النهر، على أمل بالعودة إليها إذا ما انحسرت مياه البحيرة في وقت من الأوقات. لكن رغم الهجرات المختلفة للنوبيين، إلا أنهم ظلوا يحافظون على عاداتهم وتقاليدهم الموروثة، وهو ما يتجلى بوضوح في احتفالاتهم بالمناسبات الاجتماعية المختلفة، حيث تتنوع أشكال الغناء النوبي بإيقاعاتهم الفنية المميزة، وأداء رقصة الأراجيد التي تعكس تاريخهم العريق، وهي رقصة جماعية مستلهمة من نهر النيل وموجاته، تشارك فيها المرأة الرجل، مثلما تشاركه مختلف ألوان الحياة، ما يؤكد قيمة التراث النوبي وأنه رغم كل الصعوبات لا يزال عصياً على الاندثار».

* تصوير: أحمد شاكر