"منتدى الشيخة فاطمة بنت مبارك حول الصحة النفسية".. تجارب واستراتيجيات لتعزيز الرفاه النفسي
شكلّ «منتدى فاطمة بنت مبارك للأمومة والطفولة حول الصحة النفسية» نافذة حيوية لتعزيز الوعي المجتمعي بقضايا الصحة النفسية، محاولاً إشراك كل الشرائح المجتمعية، ومركّزاً على الأطفال واليافعين كعناصر أساسية في ترسيخ هذا الوعي، حيث تشير الإحصاءات العالمية إلى أن واحداً من بين كل خمسة أطفال يعاني مشكلاتٍ نفسية تتطلب التدخل المبكّر، وحيث إن الحكومة الإماراتية كانت قد أصدرت قانوناً اتحادياً يواكب التوجهات والمفاهيم الحديثة في مجال الصحة النفسية.
لم يطرح المنتدى، بجلساته للنقاش وورش العمل المختلفة، المشكلات فحسب، بل رصد الحلول الواقعية والعملية، وكيفية توفير بيئة أسرية تدعم الصحة النفسية، ودعم المجتمع بكل شرائحه، لكونه «جزءاً من الحل»، باعتبار أن «الصحة النفسية ليست مجرّد رفاهية، بل ضرورة لبناء مستقبل أفضل للجميع».
ذياب بن محمد بن زايد يتحدث إلى إحدى المشاركات في المنتدى
المنتدى الذي نظّمه المجلس الأعلى للأمومة والطفولة برعاية سموّ الشيخة فاطمة بنت مبارك، رئيسة الاتحاد النسائي العام، رئيسة المجلس الأعلى للأمومة والطفولة، الرئيسة الأعلى لمؤسّسة التنمية الأسرية، «أم الإمارات»، عقد فعاليّاته في فندق «إرث»- أبوظبي..
وحضر سموّ الشيخ ذياب بن محمد بن زايد آل نهيان، نائب رئيس ديوان الرئاسة للشؤون التنموية وأُسر الشهداء، جانباً من فعاليات المنتدى، وأشاد بأهمية المنتدى في إرساء حوار شامل حول قضايا الصحة النفسية المرتبطة بالأمومة والطفولة، مؤكّداً دور المنتدى في دعم تبادل الخبرات، وتعزيز التعاون، ودور الأسرة في معالجة قضايا الصحة النفسية المرتبطة بالأمومة والطفولة.
«أصوات المستقبل».. رسائل قوية للأهل لاحتضان أبنائهم
شكّل الأطفال واليافعون الصوت الأقوى في المنتدى، حضوراً ورسائل، حيث الرهان عليهم في تعزيز نهضة الدولة، استناداً إلى تعزيز صحتهم النفسية.
فالجلسة الافتتاحية «أصوات المستقبل»، أدارها الفنان أحمد حلمي، بمشاركة مجموعة من الأطفال الإماراتيين، وتناولت التحدّيات النفسية التي يواجهها الأطفال في عصرنا الحالي، لا سيما مع ضغوط الحياة، والتغيّرات التكنولوجية السريعة، وتمّ تسليط الضوء على أهمية الوعي المبكر بالصحة النفسية، وتأثيرها في تطوّر الشخصية، وبناء مستقبل صحي وسليم.
كلمات الأطفال ورسائلهم أرست الكثير من الرؤى الناضجة لديهم، حيث دعا أكثر من طفل من المشاركين، إلى ضرورة اهتمام الأهل بصحة أطفالهم، النفسية والجسدية، وأهمية توفير بيئة داعمة وآمنة لهم.
تركز مدية سيف الطنيجي على أهمية الصحة النفسية، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من رفاهية الفرد وتوازنه الداخلي، مشيرة إلى أن تأثيرها يمتد ليشمل المنظومة الحياتية بأكملها، سواء كان هذا التأثير إيجابياً، أم سلبياً، وتؤكد أن مراحل الطفولة والمراهقة «تعدّ الأساس في تشكيل الشخصية والعواطف، وأن منح هذه المراحل العمرية اهتماماً أكبر، ورعاية عاطفية كافية يسهمان في بناء جيل واعٍ، وقادر على قيادة المستقبل، والمساهمة في ازدهار الوطن».
بدوره، حمّل سلطان ماجد البادي، رسالة مفادها «وعي الطفل بحقوقه الأساسية»، «هذا الوعي بحقوقه، بما في ذلك الحقوق الصحية، والتعليمية، والثقافية، يعزّز شعوره بالثقة، ويمنحه إحساساً بأن صوته مسموع، وأفكاره مُقدّرة، كما أن تمكين الطفل من التعبير عن نفسه بثقة يسهم في بناء جيل أكثر وعياً، وقادراً على مواجهة التحدّيات المستقبلية، وهذا الوعي يدعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة، منها الهدف الثالث المتعلّق بالصحة والرّفاه».
ناقش الأطفال الكثير من التحدّيات، حيث تطرقت فاطمة فؤاد العقيلي إلى أثر التكنولوجيا في عصرنا الحالي، قائلة «لقد باتت وسائل التواصل الاجتماعي تؤثر بشكل كبير في حياتنا، وأصبح العالم الرقمي جزءاً من واقعنا اليومي، حيث نجد أنفسنا نواجه صورة غير واقعية، ومثالية، على منصات التواصل الاجتماعي».
وتشرح «يقارن الأطفال أنفسهم بهذه الصور المثالية، ما يؤثر في ثقتهم بأنفسهم، ويشعرهم بالحرمان، لتبدأ دائرة القلق والاكتئاب. فالتواجد على وسائل التواصل الاجتماعي يعرّض الأطفال للعديد من التحديات، منها التنمّر الإلكتروني، والإساءة، وحتى التحرّش، ومن الضروري أن نكون على وعي بهذه المخاطر واتخاذ الخطوات اللازمة لحماية الأبناء وتعزيز تقديرهم لذواتهم في هذا العصر الرقمي».
أحمد حلمي.. كيف حوّل التنمّر ضده إلى طريق للنجاح؟
ولطالما تناول الفنان المصري أحمد حلمي في عدد من أفلامه قضايا الصحة النفسية بعمق، وإنسانية، مثل فيلم «آسف على الإزعاج» الذي جسّد فيه دور شخصية تعاني الاكتئاب والهلوسات، بعد وفاة والدها، مبلوراً صورة التحدّيات النفسية التي يمرّ بها الأفراد، وكيف تؤثر في حياتهم اليومية، وعلاقاتهم.
كما تطرق فيلم «بلبل حيران» إلى صراع الإنسان مع التوتر، والقلق، واستطاع حلمي تجسيد المشاعر المعقدة، ما طرح أهمية الصحة النفسية، ودورها في الرفاه الشخصي.
في المنتدى، حضر حلمي لكونه السفير الإقليمي لليونيسيف، وركّز على محاور عدّة، تتعلق بالمجتمع، الأسرة، والمدرسة، في دعم الصحة النفسية للأطفال، من دون أن يغفل تأثير التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي في واقعنا المعيش.
ظاهرة التنمّر كانت حاضرة في كلام حلمي، كما في تجربته الشخصية، مع تعرّضه للتنمّر بسبب شكل أذنه في طفولته، حيث كان زملاؤه يسخرون منه، ويطلقون عليه ألقاباً مزعجة «هذه التجربة بدت صعبة عليّ في البداية، إلا أنني استطعت تحويل تلك المواقف السلبية إلى طاقة إيجابية، من باب إدراكي أن المتنمّر هو شخص ضعيف الشخصية»..
مسلّطاً الضوء على أهمية التصدّي لهذه الظاهرة التي تؤثر بشكل كبير في الصحة النفسية للأطفال، وأهمية دور الأسرة والمدرسة في تعزيز بيئة آمنة، وداعمة للأطفال للتغلب على هذه المشكلة.
وإذ شدّد على أن الصحة النفسية هي أحد أهم الأبعاد التي يجب مراعاتها في التربية، خلص حلمي إلى أن «الفهم الخاطئ لمعنى الصحة النفسية هو ما يقود البعض إلى الاعتقاد بأن تربية الأطفال المثالية تعني حياة خالية من التحديات، أو المشكلات، إلا أن الحقيقة تكمن في القدرة على مواجهة تلك التحدّيات، والتعامل معها بوعي، وإيجابية».
نبيلة مكرم.. وحادثة ابنها التي غيّرت حياتها!
وقفت السفيرة نبيلة مكرم، وزيرة الهجرة المصرية السابقة، أمام الجمهور بكل صلابة، لتتحدث عن تجربتها الشخصية، وقالت «أنا هنا اليوم لأشارككم تجربتي الشخصية. بداية، أودّ أن أعرّف نفسي. أنا السفيرة نبيلة مكرم، وزيرة الهجرة المصرية السابقة.
خدمت بلدي في الحكومة لمدة سبع سنوات، ولكن قبل أن أكون وزيرة، كنت سفيرة لمصر في دول عدّة، أولاها البرازيل، ثم شيكاغو في الولايات المتحدة، روما، وأخيراً دبي. وبعد عامين في دبي، تم اختياري من قبل رئيس الوزراء لتولي منصب وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين في الخارج».
وتوقفت مكرم عند لحظة صعبة في حياتها الشخصية، عندما تعرّضت لصدمة كبيرة تتعلق بابنها رامي، الذي «كان طالباً مجتهداً جداً»، كما تصفه، يدرس في جامعة في الولايات المتحدة، وحصل على درجة الماجستير في علوم البيانات في نيويورك. إلا أن رامي، المصاب بمرض الفصام (الشيزوفرينيا)، تورّط في حادثة قتل في الولايات المتحدة.
تصف مكرم هذه اللحظة «كانت صدمة قوية، تماماً كما قالت الإعلامية لميس الحديدي، مثل «البلكونة اللي وقعت على راسي». إنه أمر يفوق قدرتنا على التحمّل عندما نكتشف أن أحد أفراد أسرتنا يعاني مرضاً نفسياً خطراً.
لكن ما حدث لنا هو حادثة تذكّرنا، جميعاً، بمدى أهمية دعم الصحة النفسية، وعدم تجاهل أيّ علامات تدل على وجود مشكلات نفسية»، مؤكدة أن هذه التجربة غيّرت حياتها، وأسلوب تعاملها مع الحياة، والتحدّيات.
ثمة أسئلة كثيرة رافقتها في تلك المرحلة «كيف يمكن أن أجد نفسي في هذه الكارثة؟ في البداية، تكون الصدمة، ثم الانهيار، ثم تأتي الأسئلة المتكررة: لماذا أنا؟ لماذا تم اختياري؟ ثم يأتي الاستسلام، ونسأل أنفسنا: ماذا نفعل الآن؟»..
مشيرة إلى أن هذه التجربة دفعتها لإنشاء مؤسسة «فاهم»، للدعم النفسي في مصر، والتي تهدف إلى كسر وصمة العار المرتبطة بالأمراض النفسية، في ظل المفاهيم المغلوطة التي تتعلق بالصحة النفسية، والتي تأصّلت في أذهاننا نتيجة للأفلام القديمة، وبالأخص أفلام إسماعيل ياسين.
هذه التجربة، رغم صعوبتها، دفعت مكرم إلى التفكير، بعمق، في قضية الصحة النفسية «عندما تحدثت مع ابني بعد الحادثة، سألته: متى شعرت لأول مرة بأنك مريض؟ فأجابني أنه كان يشعر بذلك منذ أن كان في العاشرة من عمره. هذا الحوار هو ما ألهمني لبدء المؤسسة، وبالأخص عندما سألته عن سبب عدم إبلاغي معاناته، جاء الردّ الذي صدمني (لن تفهمي)».
تُعلّق بأسى «هذا الرد صدم قلبي كأم، لأن الأولاد في هذا العمر يرون الأمور بمنظور مختلف، ويشعرون بأن أهلهم قد لا يفهمون ما يمرّون به، حيث عاش في عالمين منفصلين لسنوات من دون أن ندرك ما يمرّ به».
التجربة الشخصية مع ابنها رامي لم تكن السبب الوحيد لإنشاء مؤسسة «فاهم». وتوضح مكرم أنها أطلقت مبادرة لدعم الطلاب المصريين في الخارج عبر إنشاء منصة إلكترونية تمكّن الطلاب من التواصل مع أطباء نفسيين للحصول على الدعم اللازم. وطلبت من الطلاب أن يكتبوا رسائل تشجيعية لرامي، وكان من بينهم شاب يُدعى عبد الرحمن يدرس في روسيا.
وأضافت مكرم «عبد الرحمن كتب رسالة مؤثرة لرامي يقول فيها (أنا مدين لك بحياتي)، لكون عبد الرحمن مرّ بأزمة نفسية حادة في روسيا، وكان يخطط للانتحار، لكنه لم يكن يعرف كيف سينفذ ذلك. وعندما علم بمبادرتي التي أطلقتها بسبب تجربة رامي، قرّر الانضمام إلى المنصة، وتواصل مع طبيب نفسي ساعده على تجاوز أزمته».
تختم مكرم رؤيتها بالتأكيد على «إن الألم الذي مررت به، وما زلت، مع ابني لن يذهب سدى، بل سيشكّل الأساس لإحداث تغيير حقيقي في كيفية تعامل المجتمع مع قضايا الصحة النفسية».
د. بسمة آل سعيد.. سنوات ذهبية للمرأة دوماً
الازدهار قد يكون عنواناً مناسباً لمحاضرة «سنوات ذهبية.. أُسر متناغمة.. عقول سليمة» التي قدّمتها الدكتورة بسمة بنت فخري آل سعيد، رئيسة مؤسسة عيادة همسات السكون والاستشارية في الصحة النفسية والإرشاد الأسري، حيث ركّزت في محاضرتها على أهمية الحفاظ على الصحة النفسية، ليس من منظور فردي فقط، بل من منظور شامل يمتدّ ليشمل العائلة بمختلف أجيالها، وعلى كون «صحة الأم النفسية هي الركيزة الأساسية في استقرار الأسرة، وتنعكس مباشرة على كل أفراد العائلة».
وأوضحت أن الأم تعاني ضغوطات نفسية كبيرة، بخاصة في المرحلة العمرية بين 35 و50 عاماً، التي وصفتها بــ«السنوات الذهبية». في هذه المرحلة، تعيش الأم تحدّيات كبيرة من تربية الأطفال، إلى مواجهة متطلبات العمل، مروراً بالتعامل مع التغيّرات التي قد تطرأ على علاقتها بزوجها، والمجتمع.
بيد أن الازدهار والسنوات الذهبية ترافق كل مرحلة عمرية من حياة النساء، حيث أكدت د. بسمة «أهمية الوعي بالضغوطات النفسية، وطرق التعامل معها، وأهمية حصول الأمهات على الدعم الكافي، سواء من الأسرة، أو المجتمع، أو من خلال الخدمات النفسية المتخصصة».
فالأطفال واليافعون يتأثرون بشكل كبير بالحالة النفسية لأمّهاتهم، وآبائهم. وفي هذا السياق، أشارت د. بسمة آل سعيد، إلى ضرورة الانتباه للاضطرابات النفسية التي تظهر لدى الأطفال في مراحلهم المبكّرة، وتوفير الدعم النفسي المتخصص لهم، مشدّدة على أن «الصحة النفسية للأطفال لا تقل أهمية عن صحتهم الجسدية»، وأن أيّ إهمال قد يؤدي إلى نتائج سلبية تستمر معهم في مراحل عمرية لاحقة.
ولم تغفل د. بسمة آل سعيد فئة كبار السّن، لجهة «تأثير الشيخوخة في الصحة النفسية، وأهمية توفير بيئة داعمة لكبار السن، سواء داخل الأسرة، أو من خلال الرعاية المتخصصة، فالعزلة التي قد يشعر بها كبار السّن، (وبالأخص المرأة)، في بعض الأحيان، يمكن أن تؤدي إلى مشكلات نفسية مثل الاكتئاب والقلق. لذلك، من الضروري إبقاء كبار السّن جزءاً من الحياة الأسرية اليومية، مع توفير الدعم النفسي والاجتماعي لهم».
ثمة رؤية شاملة قدمتها د. بسمة بنت فخري آل سعيد، عن الصحة النفسية، وضرورة الاهتمام بالرّفاه النفسي لكل الفئات العمرية داخل الأسرة، ما يسهم في بناء أسر متوازنة، ومجتمعات أكثر قوة.
* تصوير: محمد السماني ومن المصدر