وقفت الزوجة الشابة في ساحة محكمة الأسرة، في مصر، تروي للقضاة قصتها مع زوجها، وتطلب الطلاق خلعاً، بعد أيام قليلة من زفافها، حيث نهرها الزوج، وصفعها على وجهها عندما اكتشف «يوم الصباحيّة» أن لون عيني زوجته «الخضراوين» ما هو إلا عدسات لاصقة، وليس لونهما الحقيقي.
قالت الزوجة «اعتدى عليّ بالضرب «يوم الصباحية»، عندما وجدني أخلع عدسة لاصقة من عيني، وأضعها في المحلول، فوجئت به يقترب مني ويسألني (مش عيونك كانت خضرا)، فأخبرته أنها عدسة طبيّة، فظلّ يوجه لي اللوم، ويتّهمني بأنني خدعته، وصفعني على وجهي، وساندته أمه في ذلك، ولذلك لا أستطيع الحياة مع زوج يهين زوجته في أسعد أيام حياتها لأسباب تافهة».
بعيداً عن حكم المحكمة.. هذه الدعوى القضائية تفتح ملف «الغش في الزواج» وصوره، وأشكاله، ومدى أحقية الزوجين في فسخ عقد الزواج بدعوى الغش.
لذلك ذهبنا لعلماء الشريعة الإسلامية ورجال الفتوى، للتعرّف إلى صور الغش التي تبيح الطلاق، وتداعيات إخفاء بعض العيوب عن الراغبين في الزواج خلال مرحلة الخطبة.. وهنا خلاصة ما قاله العلماء والفقهاء من نصائح وتوجيهات.
المصارحة والمكاشفة قبل الزواج
بداية، يؤكد د. علي جمعة، مفتي مصر السابق وعضو هيئة كبار العلماء في الأزهر، ضرورة المصارحة والمكاشفة بين الراغبين في الزواج، من الجنسين، خلال فترة الخطبة حتى يُبنى الزواج على التراضي والقبول بما في الطرفين من محاسن وعيوب، إن وجدت.
ويقول «فترة الخطبة- طالت أم قصُرت- تستهدف تعرف كل من الطرفين إلى الآخر بما يُطمئن قلبه، ويرضي نفسه، ويجعله يقبل على الزواج وهو مطمئن بأن شريك حياته على الصورة التي يراه عليها من دون غش، أو تدليس، وفي زيجات كثيرة تكون المرأة، أو الرجل فيه بعض العيوب الخافية عن الطرف الآخر، وبمجرد الإعلان عنها يتم القبول بها، والإعلان عن ذلك مهم للطرف الآخر، لأنه يبعث الطمأنينة في قلبه بأن شريك حياته لا يخفي عنه شيئاً، وهذا مبعث للطمأنية، وأحرى بالقبول. وهناك أطراف لا ترضى بهذه العيوب، سواء أكانت عيوباً جوهرية، أم شكلية، وتنصرف قبل الارتباط، وهذا هو الأفضل للطرفين».
عيوب تستوجب الطلاق
لكن إن تم الزواج واكتشف أحد الطرفين أن في شريك حياته عيباً لا يقبله، فمن حقه هنا التفريق، وقد أعطى بعض الفقهاء للزوجة حق طلب التفريق إذا وجدت في زوجها عيباً مستحكماً تتضرر منه، ولا يمكن البرء منه، أو يمكن بعد زمن طويل، وسواء أكان ذلك العيب موجوداً في الزوج قبل العقد ولم تعلم به عند إنشائه، أم حدث بعد العقد ولم ترض به.
أما بالنسبة إلى الزوج فالأمر يختلف، حيث لم يُعطه الحق في فسخ عقد الزواج بسبب العيب الموجود في الزوجة مطلقاً، حتى ولو كان العيب مستحكماً، ويمنع مقصود العقد، وحتى لو شرط الزوج في العقد عدم وجود العيب في الزوجة ثم اكتشف وجوده بعد النكاح، لأن الزوج يملك حق تطليق زوجته في أي وقت من دون وجود ما يستدعي ذلك من عيوب، وهذا رأي فقهاء الحنفية، وذلك بخلاف جمهور الفقهاء الذين أثبتوا للزوج خيار العيب.
إذا كان في الزوجة عيب يمنع الزوج من استيفاء المنافع التي من أجلها شرع الزواج، أو يمنع مقصود النكاح، على خلاف بينهم في ما يعتبر عيباً يجيز الفسخ وما لا يعتبر، ويترتب على ذلك أنه لا يجوز للرجل طلب فسخ العقد، أو طلب إبطاله، إذا وجد عيباً في المرأة استناداً إلى علّة التدليس، أو الغش، بسبب اكتشافه هذا العيب بعد الدخول.
الكشف الطبي قبل الزواج إحدى دعائم استقرار العلاقة الزوجية
وهنا يفرّق د. جمعة بين العيوب الجوهرية، التي توجد في الزوج أو الزوجة، وتعوق أحدهما عن الوفاء بمقصود الزواج، والعيوب الشكلية البسيطة التي لا تؤثر في العلاقة الزوجية، ويمكن أن يتغاضى عنها الطرف الآخر حرصاً على رباط الزوجية، مثل «لون عيون الزوجة»، أو «شكل شعرها» وما يشبه ذلك، فمثل هذه العيوب الشكلية يمكن أن يتغاضى عنها الزوج، إذا كان هناك وفاق نفسي بينه وبين زوجته، ويمكن التغاضي عنها مع عتاب رقيق للزوجة بسبب إخفائها هذا الأمر خلال فترة الخطبة، فرباط الزوجية «ميثاق غليظ» لا ينبغي التفريط فيه بسبب أمور شكلية.
وينبه مفتي مصر السابق هنا إلى أن هناك بعض العيوب التي قد تُكتشف، في الزوج أو الزوجة، بعد الزواج وهو لا يدري بها، مثل عدم القدرة على المعاشرة الزوجية، أو عدم الصلاحية للإنجاب، ومثل هذه العيوب عند التعرف إليها لا تدخل في باب الغش والتدليس، ولذلك لا تستوجب الطلاق للغش، وإن كانت تستوجبه للضرر الذي يلحق بأحد طرفي العلاقة الزوجية.. ومن هنا ينبغي الإقدام على الكشف الطبي قبل الزواج، فهو إحدى دعائم استقرار العلاقة الزوجية.
إخفاء العيوب قبل الزواج يثير الريبة
د. عباس شومان، أستاذ الشريعة الإسلامية والأمين العام لهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، يضم صوته إلى صوت د. جمعة، ويؤكد ضرورة أن يقوم الزواج على الصراحة، والوضوح، والمكاشفة، بين الطرفين، ولذلك لا ينبغي إخفاء عيوب عن المخطوبين، سواء أكانت عيوباً جوهرية، أم هامشية، فعدم الكشف عنها في فترة الخطبة قد يثير الريبة والشك في نفس الطرف الآخر، فمن يخفي عيباً هامشياً أو شكلياً يمكن أن يخفي عيوباً أخرى، تؤثر في استمرار العلاقة الزوجية.
لكن يتحفظ د. شومان على إيقاع الطلاق لمجرد إخفاء الزوجة عن أمور بسيطة، مثل لون عينيها، إذا كان الأمر يتعلق باللون فقط، لكن إذا كان هناك ضعف نظر فيجب إخبار الطرف الآخر به، فإن رضي بهذا العيب وقبل أن تكون زوجته كذلك، فبها ونعمت، وإن رفض انصرف من دون زواج حتى لا تُضم الزوجة إلى قائمة المطلقات لهذا السبب، وحتى لا تُهدر تكاليف الزواج التي أصبحت باهظة جداً في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها معظم الدول الإسلامية حالياً.
صاحبة الدِّين هي الواعية بتعاليم دينها والمتخلّقة بأخلاقياته، العارفة بواجباتها كزوجة
ويضيف «لا ينبغي التفكير في الطلاق لأسباب تافهة، فالطلاق بلا سبب قوي يستدعيه حرام، وشريعتنا الإسلامية تحيط الأسرة بسياج من حديد، بغية منع مهدّدات استقرارها، ولذلك يحث الإسلام الطرفين على التدقيق في مواصفات شريك الحياة إن أراد بناء أسرة قوية تحقق السكينة، وتسود المودة بين أطرافها، وتنشئ نشئاً صالحاً متمتعاً بحنان الوالدين، ومحاطاً بعنايتهما، وتربيتهما، حتى يشبّ سوياً، قادراً على تكوين أسرة جديدة.
فحثّ الشاب على اختيار ذات الدين «فاظفر بذات الدِّين ترِبَت يداك»، وذات الدِّين ليست كما يحسب البعض كثيرة الصلاة والصيام، أو المحتشمة في زيّها فقط، ولكن صاحبة الدين فوق ذلك هي الواعية بتعاليم دينها، والمتخلّقة بأخلاقياته، العارفة بواجباتها كزوجة، والتي تقدّر حقوق زوجها وتفي بها قبل مطالبتها بحقوقها على زوجها وأولادها، وذات الأمر مطلوب من الطرف الآخر، فأولياء المرأة عليهم قبول الخاطب صاحب الخُلق قبل المال، والحسب، والجاه «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إلّا تفعلوه تكن فتنة وفساد كبير».
لا تتلاعبوا بالطلاق
وهنا يحذّر عالم الفتوى الأزهري، الرجال والنساء، من اللجوء للطلاق من دون وجود أسباب تستدعيه، ويبيّن أن كثيراً من الرجال يفهمون الطلاق فهماً خاطئاً، فبعضهم يراه حقاً مطلقاً يستخدمونه في الوقت الذي يحدّدونه لمجرد رغبتهم فيه، وهذا خطأ، فالطلاق ليس سلطة استبدادية جُعلت في يد الزوج يستخدمها لمجرد الهوى، والتشهّي، بل جعل الطلاق بيد الزوج للحد من استخدام الطلاق بصفة عامة، حيث إن الرجال أقلّ اندفاعاً في إيقاع الطلاق لضعف العاطفة عندهم عن النساء.
فعاطفة المرأة، وهي نعمة أنعم الله بها على النساء، تجعلها أكثر حساسية وتفاعلًا مع المواقف من الرجال، ولذا فهي تطلب الطلاق لأسباب يمكن للرجال التغلب عليها، ولا يفكرون في التطليق عندها، فالطلاق وإن كان مشروعاً فهو مُبغض مكروه في شريعتنا، فإذا لم يدرك الرجال هذا، وتعجّلوا بإيقاع الطلاق لأسباب بسيطة فقد ضيّعوا الأمانة، ولم يقدّروها حق قدرها.
وليعلم الرجال أن الطلاق الذي جُعل لهم دون النساء، ليس حقاً مطلقاً يخصّهم، بل هو أمرٌ يخص الرجل والمرأة، على السواء، جعل في يد من يرجى أنه الأكثر أناة في استخدامه، ولذا فهو ليس حرّاً في إيقاعه متى أراد، ومن دون أسباب، فلو أوقعه من دون سبب يجعل من استمرار الزوجية أمراً صعباً فهو آثم، لما فيه من ظلم للزوجة بلا جريرة ارتكبتها، فإن كان هو حراً في نفسه، وما يجرّه عليه تطليقه، فليس حراً في أن يوقع الألم النفسي على الزوجة، ويفقدها حياة زوجية مستقرة قد لا تجد مثلها، فيكفي أنها ستحمل لقب مطلقة المُبغض مجتمعياً، ولذا كان الطلاق أبغض الحلال في شريعتنا.
وينتهي د. شومان إلى تأكيد أن الشريعة الإسلامية ترفض عدم المصارحة بعيوب وأمراض أحد الطرفين قبل الزواج، مشدداً على أن هذا السلوك يعد غشاً غير مقبول، ويمهّد حتماً لزعزعة الثقة والاستقرار بين الزوجين، ومن ثم يؤدي إلى الطلاق، ويواصل «الصدق والأمانة في كشف العيوب، ولو بسيطة بين المقبلين على الزواج، هما أساس استمرار الأسرة، وتماسكها وسعادتها في المستقبل».
فقدان الثقة يسرّع إفشال الزواج
الداعية الأزهري د. مبروك عطية، العميد السابق بجامعة الأزهر، يؤكد هو الآخر ضرورة أن يقوم الزواج على المصارحة والمكاشفة بين الطرفين «أنا على ثقة لو أن هذه الزوجة قد أبلغت زوجها في فترة الخطبة أنها تستعين بعدسات لاصقة، وأن اللون الذي يراه ليس هو اللون الطبيعي لعينيها، قبل ذلك تقديراً منه لأمانتها وصدقها، ولكن لأنها أخفت عنه هذا الأمر فبدأ الشك يتسرب إلى نفسه بأنّ من أخفت عنه ذلك يمكن أن تكون أخفت عنه ما هو أصعب من ذلك، وفقدان الثقة بين الطرفين يدمّر العلاقة الزوجية ويسرّع إفشالها».
لذلك يعتبر د. مبروك عطية «الكشف الطبي قبل الزواج» وسيلة حماية للعلاقة الزوجية، ويقول «الفقهاء حددوا شروطاً أساسية لصحة عقد الزواج، منها ألا تكون المرأة فيها مرض مُعدٍ، وأن تكون ذات كفاءة، أي ذات سمعة طيبة، وبعض الفقهاء يعتبرون الكفاءة من شروط صحة النكاح، فإذا تزوجت المرأة رجلاً عرف عنه أنه يؤدي حق الله، ثم اتضح أنه يشرب الخمر، لها أن تطلب فسخ العقد، وفي حالة كذب الزوجة على زوجها بأن تبيّن بعد الزواج أنها مصابة بمرض معيّن يمنعها من الإنجاب مثلاً، يكون الزواج هنا سليماً دينياً، لأن هذا ليس من الأشياء التي توجب الفراق، وللزوج هنا الحق في الزواج بأخرى لأن من أساس الزواج، أو ثمرته، الإنجاب.
ولو تزوج الرجل من امرأة على أنها بِكر واكتشف أنها ثيّب يكون الزواج سليماً، لأن مقومات عقد الزواج موجودة، ولأن فضّ غشاء البكارة لا يدل قطعياً على انحراف المرأة، بل قد يكون نتيجة جهد بدني قامت به المرأة، أو غير ذلك من الأسباب.
ينبغي أن يصارح كل طرف من الطرفين الراغبَين في الزواج الطرف الآخر بحقيقة حالته
لذلك أرى أن الفحص الطبي قبل الزواج مهم حتى يتأكد الزوج، والزوجة، من خلوهما من الأمراض المُعدية، ويكشف كل منهما للآخر حقيقة الأمراض المصاب بها، وهذا الإجراء جائز شرعاً، لأن الإسلام يحرص على إنجاب ذرية خالية من الأمراض، والآفات، والعاهات، وحتى تكون الأمور واضحة، فكل طرف له الحق في إتمام الزواج، أو التراجع عنه، وهذا أهم أهداف الخطبة في الإسلام.
لذلك يشدد د. عطية على ضرورة المصارحة بالأمراض والعيوب بين الراغبين في الزواج «الزواج يقوم على المودة والتراحم والألفة بين الزوجين، ورعاية كل منهما لمصالح الآخر، والوفاء بحقوقه، لذلك ينبغي أن يصارح كل طرف من الطرفين الراغبين في الزواج الطرف الآخر بحقيقة حالته، أي يصارحه بالأمراض التي يعانيها، فإذا كانت الزوجة عقيمة، أو فيها عيب مخفي عن الخاطب لا يجوز لها أن تخفي الأمر عنه، فإذا ما وافق على الزواج منها مع وجود هذا العيب فلا يجوز له أن يطالب بعد ذلك بفسخ عقد الزواج.. لكن إذا ما أخفت عنه هذا العيب كان له أن يطلب فسخ العقد».
اقرأ أيضاً:
- الفحص النفسي قبل الزواج.. هل يقلّل من معدلات الطلاق؟
- هل أصبح الطلاق ترفاً؟ وما أسباب انتشاره؟