فارق كبير بين الغيرة الزوجية المعتدلة التي تجسد مشاعر الحب والخوف على شريك الحياة، وبين الوساوس التي تعشش في نفس رجل، أو امرأة، وتدفعه إلى الشك في سلوك شريك حياته، وبالتالي، التصرف بعشوائية وانفعالية غالباً ما تسفر عن خراب بيوت، أو ارتكاب جرائم.
كثير من الأزواج ينفعلون ويتصرفون بعنف عندما تتعرض زوجاتهم لمشاعر إعجاب، أو تحرّش لفظي في مكان عام، ولو بنظرة من رجل آخر، وقليل من هؤلاء الذين يتحكمون في انفعالاتهم، ويعالجون الموقف بهدوء، ومن دون عنف، أو إساءة. أما الآخرون فتصدر عنهم سلوكات عنف مرفوضة، لأن عواقبها وخيمة، وقد لا تمرّ من دون تداعيات على الطرفين.
القصة التي نرصد تداعياتها هنا تتكرّر، للأسف، حيث تعرّضت زوجة شابة تتمتع بجمال أخّاذ لمعاكسة شابين داخل مول تجاري شهير في «حي الشيخ زايد» الراقي الشهير، في مصر، فما كان من زوجها الذي يرافقها إلا أن تعقب الشخصين، وجرى خلفهما ليعاقبهما، ولكنه لم يلحق بهما، فعاد إلى زوجته ينهرها، ويسبّها داخل المول أمام المارة، من دون أن يكون لها دخل في ما حدث، فانصرفت مسرعة إلى منزل أسرتها..
وبعد فشل محاولات الصلح بينها وبين زوجها طلبت الطلاق، وقدّم محاميها للمحكمة فيديو يرصد تفاصيل الواقعة فطلقتها المحكمة، بعد أن فشلت هي الأخرى في تحقيق الوفاق بينها وبين زوجها.
السؤال المهم الذي يطرح نفسه هنا: هل من حق الزوج شرعاً، أن يغار على زوجته غيرة مفرطة من هذا النوع؟
غريزة فطريّة.. ومشاعر مرَضية
البداية مع العالم الأزهري د.أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، حيث يؤكد أن الغيرة بين الزوجين، وبين الأهل، غريزة فطريّة تجسد مشاعر الحب، والخوف، والحرص على الشرف والكرامة، بشرط أن تكون معتدلة، ولها ما يبررها، ولا تكون نتيجة ظنون، وأوهام، وهواجس نفسية تؤدي إلى الشك والريبة في سلوك الشخص الذي نغار عليه، سواء أكان رجلاً، أم امرأة.
ويقول «الغيرة المفرطة تدمّر البيوت العامرة بالحب، والمودة، والرحمة، فالغيرة من هذا النوع ليست مشاعر فطريّة، بل هي مشاعر مرضيّة، وهي وبال على صاحبها، ومن يتعاملون معه إذا زادت على حدّها، وقد تصل به إلى حدّ الشك، والظن، والحرمان، وانعدام الثقة، وكل هذا يدفع إلى ارتكاب جرائم، وكم من جريمة ارتكبت بسبب سوء الظن، والغيرة المفرطة من جانب أحد الزوجين، بخاصة الرجل، حيث يبالغ بعض الرجال في غيرتهم، ويرتكبون جرائم منكرة ضد من يسيئون بهم الظن».
تجنب مواطن الشبهات
ويبيّن د. هاشم بشأن ضبط مشاعر الغيرة بضوابط وقيم وأخلاقيات الإسلام «يجب على كل من الزوجين، بخاصة المرأة، تجنب مواطن الشبهات، فلا ترتدي من الملابس ما يجعلها محط أنظار الرجال في الأماكن العامة، ولا تتصرف تصرفاً يغري الآخرين بالطمع فيها، والتحرّش بها، فهي مطالبة شرعاً بالالتزام بتعاليم الإسلام في سلوكها العام، خارج البيت، وبذلك تسدّ المرأة باباً واسعاً للغيرة عليها، سواء من زوجها، أو أحد أفراد أسرتها.
فقد تخرج الفتاة مع شقيقها أو والدها، للتسوق أو الفسحة، أو قضاء مصلحة، وتتعرض للتحرّش بسبب ملابسها المثيرة، أو سلوكها العام، وهي بذلك تجرّ مشكلات وأزمات لمن يرافقها، وكثيراً ما تحدث مشكلات وأزمات من هذا النوع».
الغيرة صفة إنسانية مغروسة في نفوس الناس، وبها نحمي ديننا، ودنيانا
من هنا، يرى العالم الأزهري الشهير أن انضباط سلوك المرأة عموماً، يجنّبها مشكلات التحرش، وتداعيات الغيرة المفرطة «دائماً نرحّب بالغيرة المعتدلة بين الزوجين، والتي تبرز كنتيجة حتمية للبيت المحافظ الذي يهتدي أفراده بهدى الإسلام في حياتهم، العامة والخاصة، فالغيرة الحسنة من صفات المؤمنين الصادقين..
وقد ورد في الحديث الشريف: «إن الله تعالى يغار والمؤمن يغار«، فالغيرة صفة إنسانية مغروسة في نفوس الناس، وبها نحمي ديننا، ودنيانا، ومن الصحابة الذين اشتهروا بشدة الغيرة عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، قال عليه الصلاة والسلام: رأيت في الجنة قصراً فقلت لمن هذا القصر؟ فقيل لعمر، تذكرت غيرتك يا عمر، فبكى عمر، رضي الله عنه، فقال: عليك أغار يا رسول الله».
احذروا سوء الظن
من جانبه، يوضح د. علي عثمان شحاتة، رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، الفارق بين الغيرة، وسوء الظن الذي يفسد العلاقة بين الزوجين، قائلاً «العلاقة الزوجية تقوم على الثقة، وحسن الظن، وكلما كان جدار الثقة متيناً بين الزوجين كلما كانت العلاقة الزوجية في مأمن من العواصف والأزمات.
لكن للأسف، بعض العلاقات الزوجية تقوم الآن على أمور وجوانب شكلية، بمعنى أنه بمجرد أن يتم الإعجاب الشكلي بين الطرفين يحدث الزواج، من دون تعرّف كل منهما إلى طباع الآخر، وما يعجبه في شريك حياته، وما يخشى من حدوثه في المستقبل، ومثل هذه الزيجات سرعان ما تتعرّض للعواصف، ويحدث الطلاق. ولذلك تجد نسبة الطلاق بين المتزوجين حديثاً كبيرة جداً، وتمثل نسبة مزعجة لواقعنا، ومستقبلنا».
ويؤكد أستاذ الثقافة الإسلامية بالأزهر، أن بين الغيرة وسوء الظن «خيطاً رفيعاً» يجب أن يحافظ عليه الزوجان حتى لا يدمرّان علاقتهما الزوجية، فالغيرة الحميدة تعني أن يظل كلا الزوجين خائفاً على شريك حياته، ويسعى لأن تكون مشاعره العاطفية له وحده، من دون أن يصدر عنه سلوك، أو لفظ يوحي بسوء الظن «أكبر خطر يهدد العلاقة الزوجية هو «سوء الظن»، فبسببه تم الفراق بين أزواج، وخُربت بيوت، وتم تشريد أطفال، وضياع مستقبلهم، وبسببه أيضاً أزهقت أرواح بريئة».
وهنا يوضح د.عثمان أن الغيرة الحميدة المرغوبة شرعاً، هي الغيرة التي تستهدف حماية الحرمات من الانتهاك، ومنع اقتراف الآثام، وعدم التعدّي على حدود الله، وحماية الشرف والكرامة، أما سوء الظن فهو وساوس وهواجس نفسية، يحتاج أصحابها إلى علاج نفسي، وأخلاقي.
أشدّ الناس غيرة على الأعراض
ويواصل د. علي عثمان «لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أسوة حسنة، فقد كان يغار على محارمه، ويمكن أن يطلق عليه «إمام الغيورين»، حيث كان لا يغضب إلا إذا انتُهكت حرمات الله عز وجل، وكان أشدّ الناس غيرة على الأعراض..
لكنه صلوات الله وسلامه عليه، كان يفرّق بين الغيرة المحمودة، أو بمعنى آخر «الغيرة في ريبة»، و«الغيرة في غير ريبة»، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم «إن من الغيرة ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، ومن الخيلاء ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، أما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، والغيرة التي يبغضها الله هي الغيرة في غير ريبة، والاختيال الذي يحبه الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدمة، والاختيال الذي يبغضه الله الاختيال في الباطل».
الاعتدال مهم للغاية، حتى لا تخرج الغيرة عن حدودها فتصبح رمياً بالكذب، وضرباً بالبهتان
والغيرة في غير ريبة هي ضرب من سوء الظن الذي نهى عنه الإسلام وحذّر القرآن الكريم منه، حيث قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ».
وينتهي أستاذ الثقافة الإسلامية بالأزهر إلى مطالبة كل الأزواج والزوجات، بأن يتحلّوا بالأمانة والموضوعية، وأن يتحلوا في غيرتهم المتبادلة بـ«الاعتدال»، ويوضح «هذا الاعتدال مهم للغاية، حتى لا تخرج الغيرة عن حدودها فتصبح رمياً بالكذب، وضرباً بالبهتان، وقذفاً يجلب عقوبات، وشكوكاً تفسد النفوس، وتخرج من حيّز الظنون والأوهام إلى أبعاد مظلمة قاتمة، تتكدر معها الحياة الزوجية، وتنقلب إلى جحيم لا يُطاق».
الغيرة في موضعها مظهر رجولة
كيف ينظر الإسلام للشخص الذي يتعامل بتبلّد مع شريك حياته، ولا يبدي مشاعر غيرة عليه؟ تجيب د.فتحية الحنفي، أستاذة الشريعة الإسلامية بالأزهر، «الإسلام لا يقبل للمسلم أن يعيش متبلّد المشاعر تجاه شريك حياته، والذي لا يغار على عرضه إنسان مريض يحتاج إلى علاج، فالغيرة شعور نبيل جُبل عليه الإنسان السويّ الذي كرّمه ربّه، وفضّله.
فالإسلام أعلى قدْر الغيرة، ورفع شأنها، وجعل الدفاع عن العِرض، والغيرة على المحارم جهاداً يبذل من أجله الدم، ويُضحّى في سبيله بالنفس، ويجازى فاعله بدرجة الشهيد في الجنة..
حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: «من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد»، وأشدّ ما تظهر صفة الغيرة بين الزوجين، لأن هذه الغريزة يشترك فيها الرجال والنساء، بل قد تكون أكثر وأشدّ لدى النساء. وتتأجج أكثر إذا أحسّت المرأة بخيانة زوجها، أو بتطلّعه للأخريات، وقد تثور تلك الغيرة عند الرجل إذا شك في سلوك زوجته، أو أحسّ بتطلّعها إلى الرجال».
لا تعتقد أيها الرجل أن إفراطك في الغيرة علامة رجولة، بل هي علامة تهوّر
وتوضح أستاذة الشريعة الإسلامية بالأزهر، أن المعاشرة بالمعروف التي حث عليها الإسلام وجعلها أساساً للعلاقة الزوجية، تعني أن تكون الغيرة الزوجية بينهما معتدلة، لا تحمل شكاً، ولا إساءة «يجب على كلا الزوجين أن يقدّر مشاعر وغيرة شريك حياته عليه، لذلك لا تعتقد أيها الرجل أن إفراطك في الغيرة علامة رجولة، بل هي علامة تهوّر، وعدم اتزان، ولكن الغيرة في موضعها هي المظهر للرجولة الحقيقية، وفيها صيانة للأعراض، وحفظ للحرمات، وتعظيم لشعائر الله، وحفظ لحدوده، وهي مؤشر على قوة الإيمان، ورسوخه في القلب، ولذلك لا عجب أن ينتشر التحلّل، والتبرّج، والفجور في أنحاء العالم الغربي، وما يشبهه من المجتمعات، لضعف معاني الغيرة، أو فقدانها».
نصائح للزوجين لدرء الغيرة المفرطة
ويوجه العالم والداعية الأزهري د.مبروك عطية، بعض النصائح والتوجيهات الدينية التي تقدّم للزوجين للتغلب على الغيرة المفرطة، قائلاً «تعاليم الإسلام تهدينا، في كل أمور حياتنا، إلى السلوك القويم، فلو التزم كلا الزوجين بتعاليم وأخلاقيات دينه في التعامل مع شريك حياته لن تكون هناك إساءة، أو شجار، أو فراق.
فالغيرة الطبيعية هي التي لا مغالاة فيها، ولا مبالغة، وتعبّر عن حب الزوج لزوجته، والتمسك بها، والحرص عليها، وعلى كل رجل أن يكون حكيماً أميناً في التعامل مع زوجته عندما يشعر بغيرة تجاهها، فلا يظلم، ولا يسيء، ولا يقسو، ولا يستجيب لشياطين الجنّ والإنس التي تحيط به من كل جانب، وأن يتعامل مع زوجته برحمة ورفق، حتى عندما يرى منها ما يغضبه، وأن يؤكد لها ثقته بها في كل وقت، ولا يشك في سلوكها، إلا إذا رأى قرائن، أو أدلّة تؤكد ذلك».
ليس على المرأة حرج أن تغار على زوجها، لكن لابد أن يحدث ذلك في حدود الاعتدال
وينصح د.مبروك كل زوجة بألّا تضع نفسها في مواقف تثير شكوك الزوج، وأن تلتزم بالغيرة الشرعية والعقلانية «ليس على المرأة حرج أن تغار على زوجها، وتتابع تحركاته، وسلوكاته، لكن لابد أن يحدث ذلك في حدود الاعتدال، وعدم الشك، لأن الشك يدمّر الحياة الزوجية، والرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، أقرّ ذلك، حيث كانت زوجاته تحكمهن الغيرة، وكان يقول عن السيدة عائشة، رضي الله عنها (غارت أمّكم)».
وينتهي الداعية الأزهري إلى نصيحة كل من الزوج والزوجة، بأن يبدآ حياتهما بالتزام كامل بتعاليم الإسلام في علاقتهما ببعضهما بعضاً، وفي علاقتهما بالآخرين، فالزوجة إذا ابتعدت عن كل ما يثير شكوك زوجها، وتجنّبت مواطن الشبهات، تستطيع اكتساب ثقته، وتقدير واحترام المحيطين بها من الناس، وينبغي عند مخاطبتها للرجال ألا تخضع في القول، ولا تتكسّر في كلامها، أو مشيتها، حتى تأمن على نفسها شرّ ذئاب البشر، وأصحاب النفوس المريضة، اذ يقول تعالى: «فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقُلن قولاً معروفاً».
اقرأ أيضاً:
- الفرق بين غيرة الرجل وغيرة المرأة
- دليلك للتعامل مع الزوج "الشكاك"