18 يونيو 2023

زوجان في مبنى واحد وشقتين منفصلتين.. ظاهرة اجتماعية لها أنصار في فرنسا

كاتبة صحافية

زوجان في مبنى واحد وشقتين منفصلتين.. ظاهرة اجتماعية لها أنصار في فرنسا

ينقضي النهار ويحين وقت النوم. يسلم الزوج على زوجته ويتمنى لها ليلة سعيدة ثم يعود إلى بيته، في الجانب المقابل من الطابق الذي تقع فيه شقتاهما. إنها ظاهرة بدأت تتزايد في أوساط الأزواج الفرنسيين، شباناً وشيباً. لقد ابتكروا أسلوباً جديداً لمفهوم العيش المشترك.

ليس من السهل الخروج على الأعراف واختراع حياة مشتركة لا تلتزم بالمبادئ الشائعة والتقليدية. هناك أزواج وزوجات يعيشون في العمارة ذاتها، لكن لكل شقته. لقد اختاروا وضع مسافة بينهما ومنهم من يقسم البيت إلى نصفين، جناح له وجناح لها. والسبب، حسبما يقول من يعيش هذه التجربة، هو الحفاظ على الخصوصية الضرورية لكل كائن معاصر، وأيضاً كسر الروتين والتغلب على الملل الناجم عن الالتصاق.

زوجان في مبنى واحد وشقتين منفصلتين.. ظاهرة اجتماعية لها أنصار في فرنسا

«العائلة المبتعدة» و«العيش المفترق»

من هؤلاء كارولين، وهي سيدة أربعينية تقيم في الشقة المقابلة لشقة زوجها منذ 12 عاماً، وحين رزقا بطفل فإن مجيئه لم يغير ذلك الوضع؛ بل أنهما لم يطرحا موضوع تغيير الوضع بينهما عندما ظهرت على الزوجة بوادر الحمل.

تقول «كل تفاصيل حياتنا العائلية تجري في شقتي. وعندما يحين وقت النوم ينسحب زوجي إلى شقته». إن هذا النموذج من الحياة الزوجية لم يكن منتشراً، لكنه آخذ في التزايد بشكل ملحوظ. كان هناك من يخجل في الإفصاح عنه للأهل والأصدقاء، لكنه لم يعد يتردد في مصارحتهم بطبيعة الوضع، وانتهت الخشية من أن يسيئوا تفسيره ويتصوروا أنهما منفصلان. وقد أكد بحث صادر عن المعهد الوطني الفرنسي لدراسات السكان، عام 2018، أن هناك 3، 8 مليون أسرة فرنسية اتخذت قرار السكن في غير مكان الشريك، والبحث بعنوان «العائلة المبتعدة»، وهو يدرس الظاهرة من كل جوانبها العملية والعاطفية والمالية.

في مقابل هذا، لوحظ تراجع طفيف في نسبة الثنائيات التي تقيم تحت سقف واحد، وذلك منذ عام 1980. فقبل 40 عاماً كانت النسبة 66 في المئة بين الشبان والشابات الذين تزيد أعمارهم على 18 عاماً وصارت حالياً 59 في المئة. وترى أنيتا أن «العيش المفترق» أكثر عملية من «العيش المشترك»، إنها تقترب من الأربعين وقد تعرفت إلى شريكها الذي ارتبطت به قبل 4 أعوام. إنهما يسكنان في مكانين قريبين ويلتقيان كل يوم تقريباً، ويختاران الموعد والساعات التي يمضيانها سوية، دون أن تكون هناك أي التزامات أو مواعيد ثابتة. ولابد هنا من التوضيح أن «الثنائي» في بلد أوروبي لا يعني زوجين بعقد رسمي؛ بل تعترف الدولة ومؤسساتها والمجتمع بكل من يقرر الارتباط بشخص معين حتى بدون ورقة زواج. والدولة تعاملهما مثل أسرة واحدة ويحصلان مع أبنائهما على كل الحقوق والإعانات المخصصة للأزواج الشرعيين.

وهناك حالة المهندس بول وزوجته سولين اللذين كانا يقيمان في شقة صغيرة في باريس ثم قررا البحث عن مسكن أوسع. فقد انتقلا إلى جنوبي البلاد واشتريا منزلاً قسماه إلى قسمين، لكل منهما مكان منفصل باستثناء المطبخ المشترك. وبما أن لهما ابنة فيحدث أن يعيشا أحياناً في مكان واحد. لكن عند الحاجة إلى الاختلاء بالنفس، فإن الثاني يعود إلى جناحه الخاص بدون أن ينزعج الشريك من هذا الوضع. ويقول بول إن لكل منهما سريره وإيقاعه الذي قد يكون مختلفاً عن الآخر. وهما، مثلاً، لا يتناولان الوجبات في موعد واحد، ولا يخلدان للنوم في موعد واحد، ولهذا، فإن المسافة الفاصلة بينهما تسمح لكل منهما بأن يمارس عاداته وفق حاجته، دون الاضطرار لمراعاة عادات الثاني.

زوجان في مبنى واحد وشقتين منفصلتين.. ظاهرة اجتماعية لها أنصار في فرنسا

ما رأي خبراء العلاقات الزوجية؟

يرى عالم الاجتماع كريستوف جيرو، صاحب كتاب «الحب الواقعي»، أن الأزواج الذين يختارون التباعد في السكن هم من النوع الذي يحتاج إلى الخصوصية بشكل أكبر من المعهود والعادي. وهم في الوقت نفسه في حاجة لأن يلتقوا ولأن يساند أحدهما الآخر. وهي نماذج ذات مستوى أخلاقي رفيع لأن أحدهما لا يريد أن يراه الثاني إلا في أحسن حالاته. وهذا النوع من العلاقة ينطوي غالباً على شعور عميق بالصداقة المترافقة مع الحب.

ماذا يعني التخلص من العبء الذهني للسكن المشترك؟ توضح كلير، وهي سيدة تبلغ من العمر 52 عاماً، أنها عاشت مع زوجها 9 سنوات في مسكن واحد، ثم قررا العيش في مكانين منفصلين لفترة من الزمن. وحتى في حال عادا سوية بعد انقضاء تلك الفترة، فإن كلاً منهما سيحتفظ بشقته المنفصلة التي تقع على بعد 10 دقائق سيراً على الأقدام من شقة الثاني.. وتضيف «لم نبحث موضوع العيش المشترك مجدداً، لكننا وضعناه في البال. إن عيشنا المنفصل يقينا من المشاحنات حول تقاسم مسؤوليات البيت وترتيب الحجرات والذهاب لتسوق احتياجات العيش. إن كل واحد يتولى مهماته الخاصة، وبعد سنتين من هذا الاختيار أثبتت التجربة نجاحها؛ بل أننا سعيدين أكثر من السابق».

ماذا عن الأبناء؟ تجيب كارولين أنهما رزقا بطفلة قبل سنوات، وقد قررت تحمل مسؤوليات الرضيعة في مسكنها، مع ما يتطلبه الأمر من الرعاية وسهر الليالي، وهي تعتقد بأنها بهذا القرار أعفت زوجها من التوتر الذي يسببه بكاء الوليدة والاستيقاظ ليلاً لإطعامها. أما في ساعات النهار، فإنه يذهب إليها ويتسلم جانباً من مسؤولية رعاية البنت واصطحابها لتلقي اللقاحات وللطبيب في حالات المرض، الأمر الذي وفر عليهما مشاحنات كثيرة.

غلاف كتاب «لا وجود للثنائي المثالي»
غلاف كتاب «لا وجود للثنائي المثالي»

ليس مجرد ربة بيت

في كتاب بعنوان «لا وجود للثنائي المثالي»، ترى المؤلفة والطبيبة النفسية سيسيليا كومو، أن النساء يشعرن في الغالب بأنهن موجودات في البيت لخدمة أزواجهن. وهناك الإحساس بأن الزوجة تصبح أماً ثانية لزوجها، تعتني بكافة متطلبات حياته وتأويه. لهذا فإن العيش المنفصل قد يشكل فرصة لوضع حدود بينهما، وتعود الزوجة امرأة لا مجرد ربة البيت والأم. إن العيش تحت سقف واحد يجعل من المستحيل رسم تلك الحدود وفرضها على الزوج.

وفي حالة كارولين التي تطرقنا إليها، فإنها تقول إن من الصعب بالنسبة إليها أن تعود للحياة المشتركة بعدما جربت السكن المنفصل. فالعيش تحت سقف واحد يعني تكرار الأخطاء والتوترات والمشاحنات اليومية ذاتها، تشرح «كنت أشعر بحاجة ماسة إلى وضع حميم خاص بي، ولوقت لي وحدي. وعندما أصبحت الشقة المقابلة لنا خالية من المستأجرين، خطرت لي فكرة أن أقيم فيها غير بعيد عن زوجي. وعندما صارحته برغبتي لم يعترض؛ بل أيدني، ولم يعترض على الرغم مما يفرضه الوضع من مصاريف إضافية».

هناك من يعيش في مكانين متباعدين، مثل إيزابيل البالغة من العمر 50 عاماً التي تعيش في باريس بينما يقيم زوجها فيليب في ضواحي العاصمة. وطوال 7 سنوات كانا مضطرين لتغيير السكن تبعاً لمدارس الأطفال، فقد كان لكل منهما أبناء من زيجتين سابقتين. وفي العطلات، فإن العائلة تجتمع في بيت إيزابيل، وتقول «عند العودة من الإجازة نطرح السؤال عن المكان الذي سنبيت فيه، أو أين سنضع الحقائب، أو أين سنغسل الثياب المتسخة. وفي الحقيقة، فإننا ننشغل بكل ما يشغل الأزواج العاديين، أي الذين تحت سقف واحد. إن حياتنا تشبه تلك التي يعيشها أبناء الأزواج المنفصلين بالطلاق... يوم هنا ويوم هناك».

لعل أكثر الأشخاص ميلاً للعيش المنفصل هم أولئك الخارجين من تجربة طلاق أو الذين ترملوا. ففي مرحلة الشباب يستطيع الثنائي فرض الاهتمامات الخاصة لكل طرف. لكن التقدم في العمر يجعل من الصعب فرض عاداتك على شريكك الجديد. ولهذا يكون العيش المنفصل هو حل مناسب.

تروي شابة تجربتها في السكن المنفصل بعد ارتباطها بزوج يكبرها بأكثر من 15 عاماً. تقول إن قرارها كان غير مفهوم لمعارف الطرفين، وكان عليها أن تقدم تبريرات لا يقتنع بها أحد؛ بل يراها المجتمع حالة شاذة. إن الكل يؤكد لها أنها ستغير رأيها بعد ولادة الطفل الأول، وتضيف «في الحقيقة أن اختيار نمط عيش مختلف عن الشائع لا يزعجنا، لكنه يزعج الآخرين». لهذا لابد من الاستعداد لمواجهة نظرات الغير، وهو أمر لا يتحقق سوى بجرعة عالية من الثقة بالنفس. وترى سيسيليا كومو، أن تحمل نظرات الآخرين هو أمر مرتبط بشخصية كل منا. فهناك من يرغب في أن يحوز الرضى وبألاّ يكون موضع انتقاد، بينما هناك من لا يلتفت إلى أحكام الغير.

هذه الأحكام التي يطلقها المجتمع هي أكثر قسوة على المرأة منها على الرجل، وهي تعرضها للشكوك، لاسيما في بداية قرار العيش المنفصل، لكن الشكوك تتضاءل بمرور الوقت، وفي حالة استمرار الحب بين الطرفين، فإن الأمر يصبح عادياً وغير لافت إلى النظر.

إن مورييل وأدريان هما من النوع الذي تحرر من أحكام المجتمع واختارا العيش المنفصل ولو في بيت واحد. ولعل مما ساعد على ذلك هو قرارهما المسبق بعدم الإنجاب. وهما لا يتظاهران أمام الأقارب بأنهما يشتركان في الفراش؛ بل يعرف الجميع أن في البيت غرفتان متجاورتان للنوم، واحدة لها وواحدة له. وهما يلتقيان في سرير واحد خلال عطلة نهاية الأسبوع. وتتساءل مورييل «أين الغريب في ذلك؟ ألم يكن ملوك فرنسا والنبلاء يعيشون في غرف وأجنحة زوجية منفصلة؟ إن في القصر الرئاسي الفرنسي غرفة منفصلة لكل من الزوجين، حتى اليوم».