30 مايو 2024

بين ضرورة حياتية وظاهرة نسوية جديدة.. نساء يتمرّدن على النزيف الشهري

كاتبة صحافية

كاتبة صحافية

بين ضرورة حياتية وظاهرة نسوية جديدة.. نساء يتمرّدن على النزيف الشهري

تعرف الفتاة أنها بدأت مرحلة النضوج مع مجيء الطمث. وهي مفردة طبية فصيحة تقابلها في اللغة الشائعة تسمية «العادة الشهرية»، وهي تعني أنها بلغت السن التي تستطيع فيها أن تفرز البويضات بشكل دوري، الأمر الذي سيتيح لها الحمل والإنجاب حين يحين الوقت المناسب. هي مفاجأة مفزعة للبنات الصغيرات اللواتي لم يتلقين من أمهاتهن معلومات تمهيدية حول هذا النزف الذي يحدث من دون سابق إنذار. وعدا ذلك، فإن كثيراً منهنّ ينزعجن من «العادة الشهرية» لأنها مربكة في التعامل معها. كيف أحافظ على نظافة ثيابي، وجسدي؟ وكذلك لأن الطمث يترافق مع آلام قد تكون شديدة في بعض الحالات.

ورغم ما تسببه العادة الشهرية من تقلبات صحية ومزاجية، فإن المرأة تفزع أيضاً من انقطاعها. أي من بلوغ ما تسمى، ظلماً، سنّ اليأس، وتوقف القدرة على الإنجاب. إنها دليل استمرار الشباب، لدى فئة من النساء. وكثيراً منهنّ يعمدن إلى الحمل بعد سن الأربعين لإثبات أن «مدة صلاحيّتهن» غير منتهية، وهي فكرة ساذجة ومتوارثة من العصر الذي كانت فيه المرأة أداة للتكاثر فحسب.

بين ضرورة حياتية وظاهرة نسوية جديدة.. نساء يتمرّدن على النزيف الشهري

لماذا يوقفن «الدورة الشهرية»؟

في الغرب اليوم ظاهرة تتوسع بالتدريج، تلجأ إليها الرياضيات، وبعض الطموحات إلى تحقيق مسيرة مهنية متواصلة، ومتصاعدة. ورغم تغيّر العقليات، وتبدّل مفاهيم الجمعيات النسوية، وتقبّل فكرة أن الأمومة تقدم للمرأة، وللمجتمع، ما لا يمكن للنجاح الوظيفي أن يقدمه لها، فإن هناك نساء يعمدن إلى وقف «العادة الشهرية»، بواسطة العقاقير، لمجرد التحرر من إزعاجها، والاحتياطات التي تتطلبها.

ماري بولتو، مهندسة فرنسية تبلغ من العمر 38 عاماً، اختارت قطع الدورة الشهرية، قبل خمس سنوات، عندما علمت من مقال قرأته في مجلة طبية، أن الحيض الناجم عن حبوب منع الحمل هو اصطناعي، وأن من الممكن ربط الصفائح الدموية لوقف النزيف الشهري. وهكذا بدأت ماري بفعل ذلك لأنه «مريح» بالنسبة إليها، وهي تشرح ذلك بالقول «لا أعاني فترات رهيبة، و«العادة الشهرية» عندي ليست مؤلمة، أو ثقيلة بشكل خاص، ولكني أشعر بالتعب، وألاحظ تغيّر عاداتي الغذائية خلال هذه الفترة». هو حل مريح لأن ماري تمارس، إلى جانب كونها مهندسة، هواية العزف على آلة موسيقية مع فرقة فنية، وكان يربكها مجيء الطمث أثناء حفل موسيقي، أو عندما تكون في رحلة عمل، أو تخطط لممارسة رياضتها المفضلة، وهي رياضة قريبة من الفنون القتالية المختلطة. هناك انخفاض في الطاقة يجب التحكم فيه، ومن ثم، فإن الدورة الشهرية هي أيضاً عملية تحتاج إلى استعداد، وتفترض توفر الفوط الصحية، وسهولة الوصول إلى المراحيض، وحنفيات المياه، واستخدام الصابون، واستبدال الملابس، وغير ذلك... إن من الأسهل تجاوز كل هذه الأمور.

كتاب يجيب عن العديد من الأسئلة
كتاب يجيب عن العديد من الأسئلة

من المعروف أن بعض أنواع حبوب منع الحمل تسبب انقطاع الدورة. ويحدث أن يصفها الأطباء حتى للبنات غير المتزوجات، لا بهدف منع الحمل، بل لأسباب صحية أخرى. وتعمد نساء في بلادنا إلى تناول هذه الحبوب خلال فترة الحج، مثلاً، لتفادي إرباكات الدورة خلال المراسم المعروفة. لكن هناك العديد من الفرنسيات اللواتي يعمدن إلى إيقاف الدورة الشهرية، لفترة طويلة إلى حدّ ما، ولأسباب عدّة مختلفة. ووفقاً لدراسة أجراها معهد IFOP المتخصص في استطلاعات الرأي، عام 2021، فإن 87 في المئة من النساء الحائضات اللاتي شملهن الاستطلاع يرغبن في توقف الدورة الشهرية، بشرط أن يكون ذلك آمناً لصحتهن، وخصوبتهن.

صحيح أن هذه الممارسة منتشرة على نطاق واسع، لكنها لا تحظى دائماً بتقدير جيد. في البداية، كانت ماري بولتو تستعيد الدورة الشهرية من وقت لآخر، كل ثلاثة أشهر تقريباً. وكان طبيبها النسائي قد أكد لها أنه من الممكن تفريغ عدة صفائح دموية متتالية، من دون توقف، ومن دون خطر، لكن الشك ظل يراودها حول خطورة تناول الهرمونات بشكل مستمر. ولم يطمئنها من هم حولها.. وتقول «لم تفهم صديقاتي قراري. إنهن يحتجن إلى دورتهن ليشعرن بأنهن نساء. ومع ذلك، لم يتوقف شعوري بأنني امرأة».

د. مارتن وينكلر
د. مارتن وينكلر

ويشير الدكتور مارتن وينكلر، على موقعه الإلكتروني، إلى أن «كل ما توصل إليه العلم يؤكد أن غياب الدورة الشهرية عند النساء اللواتي يستخدمن اللولب لمنع الحمل، أو عندما تتناول المرأة حبوبها بشكل مستمر، ليس له أي تأثير في الصحة». والدكتور وينكلر هو مؤلف كتاب «كل ما تريدين معرفته عن الدورة الشهرية ولكنك لا تجرئين على السؤال».. لماذا إذن انعدام الثقة حول هذه الممارسة؟

بين ضرورة حياتية وظاهرة نسوية جديدة.. نساء يتمرّدن على النزيف الشهري

لا شك أن جزءاً من الإجابة يمكن العثور عليه في ستينيات القرن العشرين، عندما كانت الحبة على وشك أن يتم تسويقها بالشكل الذي نعرفه اليوم: علبة مكونة إما من واحد وعشرين حبة، وإما ثمانية وعشرين قرصاً (مدة الدورة)، سبعة منها عبارة عن علاجات وهمية. إن التوقف عن تناول الهرمونات، الموافق لأسبوع تناول الدواء الوهمي، هو الذي يسبب النزيف.
في ذلك الوقت، قامت عاصفة ضد فكرة ابتكار حبوب لمنع الدورة الشهرية لدى النساء. وكان الأمر المقبول هو علاج لمنع الحمل يحفز ما يسميه بعض أطباء أمراض النساء «الدورة الشهرية الكاذبة».

كيت كلانسي
كيت كلانسي

وقد أعلنت عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية كيت كلانسي، موقفها الذي ينص على أن شركات الأدوية اخترعت أسبوع التوقف عن العمل (أسبوع الأدوية الوهمية)، لإحداث فترة الحيض، لأنها اعتقدت أن المرضى والصيادلة والسلطات الدينية سيجدون وسائل منع الحمل الهرمونية أكثر قبولاً بهذه الطريقة. وقد نشرت ذلك في كتابها المعنون: «القصة الحقيقية للحيض» الصادر في العام الماضي، عن مطبعة جامعة برينستون. وإذا عدنا إلى أبعد من ذلك، فإن العالم أبقراط، الملقب بـ«أبو الطب»، ربط انقطاع الطمث مع علم الأمراض والحيض، ومع آلية التطهير الضرورية. وقد عاش أبقراط، صاحب القسم الذي يؤديه كل الأطباء في العالم عند التخرج، نحو عام 400 قبل الميلاد.

وحتى اليوم، من الصعب تغيير القناعات حين يتعلق الأمر بشؤون الطبيعة التي يولد بها الكائن الحي. إن تلك القواعد هي ضرورات بالنسبة إلى الكثيرين، ولابد من الالتزام بها. وتعترف طبيبة أمراض النساء الباريسية، فيرونيك كايول، بأنها تواجه مقاومة عندما تقترح على مريضاتها قطع الطمث، وتشير إلى أن «التلاعب بالدورة الشهرية يُنظر إليه على أنه يتعارض مع الطبيعة، والعديد من النساء يقاومنه». وهذا يشمل النساء اللاتي يعانين فترات مرضية، وتضيف «تدهشني حقاً قدرة المريضات على تحمّل الألم والدورة الشهرية الشديدة. بعضهن يشكين لي معاناة معقدة للغاية، وعندما أقول لهن إنه ليس من الضروري الاستمرار في تحمّل ذلك، أو التعايش معه، يكون الجواب: لا بأس، أنا أتدبّر الوجع، وقد اعتدت عليه».
تنظر الدكتورة كايول إلى هذه المواقف على أنها ناتجة عن خشية الأدوية بشكل عام، ولاسيما العقاقير الهرمونية. ووفقاً لأحدث البيانات المتاحة، تظل حبوب منع الحمل أكثر وسائل منع الحمل استخداماً في فرنسا، لكن استخدامها انخفض منذ الكشف عن فضيحة حبوب الجيلين الثالث والرابع في عام 2012.

بين ضرورة حياتية وظاهرة نسوية جديدة.. نساء يتمرّدن على النزيف الشهري

لنأخذ حالة كليمانس، وهي سيدة لا ترغب في الإدلاء بشهادتها باسمها الكامل، التي احتاجت إلى بعض الوقت قبل أن تتقبل حقيقة توقف الدورة الشهرية لديها. فهذه المرأة عانت الدورة طوال حياتها. بدأت تحيض منذ سن العاشرة، وعرفت القلق كل شهر بسبب «الألم المبرح» الذي تسببه لها الدورة الشهرية. وفي سن الخامسة عشرة بدأت بتناول المزيد من الصفائح الدموية واختفى الألم. لكن ردود أفعال صديقاتها كانت مقلقة. لقد اتفقن على أن وقف الدورة سيصيبها بتحولات غريبة، وقد يتسلل إليها المرض الخبيث. وكانت النتيجة أنها توقفت عن تعاطي الحبوب وعادت رحلة الآلام من جديد.

تقول «في أحد الأيام، اضطررت إلى مغادرة صالة السينما لأحبس نفسي في المرحاض وأصرخ من الألم. كانت صديقتي معي وأرادت الاتصال بالإسعاف. وبعد هذه الحادثة أحالها طبيبها النسائي إلى «الزرعة» التي تفرز الهرمونات بشكل مستمر، ومنذ ذلك الوقت تغيرت حياتها، وهي تتساءل «لماذا نضع كل تلك الآمال على الدورة الشهرية؟». إن الأطباء أنفسهم لا يملكون رأياً موحداً حول هذا الموضوع. وتشير ألين بوف، طالبة الدكتوراه في قسم علم الاجتماع بجامعة جنيف ومؤلفة كتاب «كسر محرّمات القواعد»، إلى نقص التدريب على التعامل مع الدورة الشهرية لدى بعض المعالجين، إنهم يحتفظون أحياناً بأفكار مسبقة وخاطئة، مثل حقيقة أن الدورة الشهرية مرتبطة بآلية تنظيف جسد الأنثى.

فيرجيني، تشتغل طاهية في أحد مطاعم مدينة ليون، اختارت إيقاف الدورة الشهرية حتى لا تضطر إلى «إلحاق مزيد من الضرر بنفسها». كانت الدورة عبئاً عملياً ثقيلاً عليها، أخبرها العديد من الأطباء بأن قرارها خاطئ وسيسبب لها أضراراً، بل قيل لها إنها ستصاب بالعقم. لكنها، في ذلك الوقت، لم تهتم، ولم تكن راغبة في إنجاب الأطفال. واليوم، فيرجيني أم لطفلين أنجبتهما من دون صعوبات. وقد سألتها الطبيبة حين حملت بابنتها الأولى عن تاريخ آخر دورة لها، وكان الجواب «قبل خمس سنوات»، وفتحت الطبيبة عينيها دهشة!

بين ضرورة حياتية وظاهرة نسوية جديدة.. نساء يتمرّدن على النزيف الشهري

ليست هذه دعوة لتعميم وقف الدورة الشهرية. إذ يحذر المتخصصون من أنه لا ينبغي النظر إلى تجربة الفرد على أنها حل للجميع. وفي الوقت الحالي، الطريقة الوحيدة لوقف الدورة الشهرية بشكل عكسي هي تناول الهرمونات. ولهذه الهرمونات آثارها الجانبية العديدة، مثل انخفاض الرغبة الجنسية، وزيادة الوزن، والقيء، والدوار، ونوبات الاكتئاب، وخطر الإصابة بتجلط الدم، أو الانسداد الرئوي.. تقول ألين بوف «سيكون لدى بعض النساء آثار جانبية مزعجة بحيث لن يكون وقف الطمث مفيداً لهن». وقد لاحظت ديان كوبينز ذلك بوضوح منذ تناولت حبوب منع الحمل بشكل مستمر. وديان معلمة للغة الإنجليزية تقيم في ستراسبورغ، شرق فرنسا، وتشرح أن الحبوب كانت تؤثر في حالتها المزاجية، وفي الرغبة الجنسية، وفي الوزن. كانت في الثامنة والعشرين من عمرها، وقد مرت بالفعل برحلة معقدة مرتبطة بدورتها الشهرية.

وفي بدايات حياتها، وبالتحديد في سن 12 عاماً، كانت الدورة ثقيلة جداً، وغير منتظمة، وتركت لديها ذكريات تصفها بالفظيعة، وبالأخص صدمة رحلة مدرسية تقول إنها «تركت علامة لا تمحى على مقعد الحافلة، وفي ذاكرتي». إن تناول حبوب منع الحمل في سن 17 عاماً، والتي تم وصفها في الأصل بسبب حب الشباب العنيد، كان بمثابة راحة كبيرة، لأن العلاج ساهم في تنظيم دورتها التي ظلت ثقيلة ومؤلمة. وعندما دخلت المدرسة الإعدادية، عرّفتها إحدى صديقاتها على طريقة جديدة متوفرة في الصيدليات لحبس النزيف من خلال سدادة قطنية. لقد ساعدها ذلك على التوقف عن تغيير الفوطة الصحية كل ساعتين، لكن هذه السدادة غير مرغوبة للفتيات العذراوات للخشية من تمزق غشاء البكارة.

عانت ديان عسر العلاقة الزوجية، والتوجع عند المعاشرة الزوجية. وصل بها الأمر إلى حد التقيؤ، الأمر الذي أصاب شريكها بالهلع. وبعد فترة كشف التصوير بالرنين المغناطيسي عن وجود تعضل غدّي - وهي حالة غالباً ما توصف بأنها التهاب بطانة الرحم، ووصف لها الطبيب حبوباً مستمرة لقطع الدورة الشهرية، وبالتالي ما يصاحبها من الأعراض. وهي اليوم تشعر بأن العلاج ليس مثالياً بسبب آثاره الجانبية، ولكنه يبقى الحل الأفضل بالنسبة إليها في الوقت الحالي. أما عن مشاعرها كأنثى، فتقول «لا شك في أن هناك صعوبة نفسية في التوقف عن الدورة الشهرية. أشعر بأنني لم أعد جزءاً من المجتمع. كأنني تركت عالم النساء. وتنكرت لجانب من طبيعة جسدي».

من المؤكد أن الحيض ليس له مصلحة مباشرة خارج الجهاز التناسلي، لكنه «جزء من التوازن»، كما تقول ألين بوف «إن للدورة تأثيراً في عمل الجسم بأكمله، وهي مؤشر على الحالة الصحية، مثل البوصلة». أما كيت كلانسي فتذكر في كتابها أن من الخطأ النظر إلى حياة المرأة الحائض على أنها مجرد سلسلة متواصلة من 400 إلى 500 دورة شهرية، مستمرة ومنتظمة، فمع اقتراب سنّ اليأس، تقول العديد من النساء إنهن يخشين من نهاية الدورة الشهرية، بل يفتقدنها، وتحدث لديهن فترات معقدة.

وفي كتابه «القواعد: الحصول عليها أم لا؟» يترك الدكتور مارتن وينكلر الخيار لكل امرأة على حدة. إنه يدافع عن الرعاية الفردية لكل مريض، بحيث تتخذ كل واحدة قرارها من دون خوف ووفقاً لفترة حياتها.

اقرئي أيضاً:
- كيف يتغيّر الطمث مع المراحل العمرية؟
- كيف تؤخرين الدورة الشهرية بطرق آمنة؟

 

مقالات ذات صلة