03 يونيو 2024

صناعة الخزف في جراجوس بمصر.. إبداع وصل إلى العالمية

محرر متعاون - مكتب القاهرة

صناعة الخزف في جراجوس بمصر.. إبداع وصل إلى العالمية

يبدو مصنع الخزف العتيق لزائري قرية جراجوس التابعة لمحافظة، قنا جنوب مصر، مثل بيت مهجور، وهو الذي كان ينبض حتى وقت قريب بالحياة، ليروي للزائرين واحدة من أكثر قصص الصناعات التقليدية التي ازدهرت في مصر خلال ستينيات القرن الماضي، وهي صناعة الخزف اليدوي، قبل أن تغزو بمنتجاتها أسواق العالم.

صناعة الخزف في جراجوس بمصر.. إبداع وصل إلى العالمية

تأسس هذا المصنع العتيق مطلع خمسينيات القرن الماضي، وقد هجره صناّعه ليصبح اليوم أقرب ما يكون إلى بيت للأشباح، وهو الذي طافت منتجاته العديد من بلدان العالم، وظل لعقود يتصدر قائمة المقاصد السياحية في صعيد مصر، حيث كانت تفِد إليه العشرات من الوفود السياحية لشراء منتجاته المتميزة من الخزف، ومتابعة مراحل تصنيعها التي تكشف عن مهارة صنّاع تلك المهنة في مصر، قبل أن يغلق المصنع، الذي تحول إلى مدرسة فنية لتلك الصناعة يقبل عليها الراغبون في ممارسة تلك المهنة، من مختلف القرى المجاورة لجراجوس، أبوابه ويغرق في ظلام دامس.

صناعة الخزف في جراجوس بمصر.. إبداع وصل إلى العالمية

أنشيء المصنع في القرن الماضي بجهد كبير من أحد الرهبان الفرنسيين الذين عاشوا في تلك المنطقة، وهو الراهب ستيفيان ديمون، وبمشاركة من المعماري المصري الكبير الراحل حسن فتحي، الذي تولى مهمة تصميم المصنع وفق مدرسته في فنون العمارة البيئية، قبل أن يتحول في غضون سنوات قليلة إلى قبلة لعدد من الرهبان الفرنسيين والسويسريين، الذين شرعوا في تعليم أبناء قرية جراجوس أسرار صناعة الخزف بكل جوانبها الحرفية والكيميائية والتشكيلية، ليتحول المصنع تالياً إلى وجهة لعشرات المشاهير الذين حرصوا على زيارته، بعدما غزت منتجاته الفريدة مختلف دول العالم.

صناعة الخزف في جراجوس بمصر.. إبداع وصل إلى العالمية

فقد كان دفتر زيارات المصنع حتى وقت قريب يتضمن صوراً وتوقيعات عدة، ونادرة، لكثير من الملوك والرؤساء وكبار الشعراء والمثقفين، الذين تناوبوا على زيارته، ويروي الأب وليم سيدهم في كتابه الشهير عن مدارس الجيزويت في مصر، كيف لعب رهبان تلك المدرسة دوراً كبيراً في ازدهار صناعة الخزف في مصر، التي تعد التطور الطبيعي لصناعة الفخار، ويقول سيدهم إن تلك الصناعة بدأت بالظهور بقوة منذ عصر الخديوي إسماعيل، ما تجلى تاليا في إنشاء مدرسة الخزف بقرية جراجوس، ومن بعدها مدرسة الخزف التي لا تزال تواصل دورها في تخريج أجيال جديدة من الصناع في قرية تونس بالفيوم.

صناعة الخزف في جراجوس بمصر.. إبداع وصل إلى العالمية

لم يمنع غلق المصنع خلال الفترة الأخيرة، عشرات من أسر قرية جراجوس من ممارسة صناعتهم الأثيرة، تلك التي عرفوها منذ قرون بعيدة، والتي تتمثل في صناعة الفخار بالطريقة التقليدية، حيث تنتشر العشرات من ورش صناعة الخزف في دروب القرية المختلفة، وتخرج بمنتجاتها إلى العديد من المعارض، المحلية والإقليمية، حيث تعد ورشة جرجس أحد أشهر الورش العاملة في تلك الصناعة بالقرية.

صناعة الخزف في جراجوس بمصر.. إبداع وصل إلى العالمية

تمر صناعة الخزف في جراجوس بأربع مراحل رئيسية، قبل أن ينتهي الصناّع إلى إنتاج تلك التحف الفنية، رائعة الجمال، تبدأ، حسبما يقول الفنان التلقائي أمجد جرجس، بجلب التربة الحمراء من أسوان، وهي عبارة عن كتل صغيرة من الطمي يتم الحصول عليها في المنطقة المتاخمة لبحيرة السد العالي، ثم يتم وضعها في أحواض التجهيز التي يتم غمرها بالماء لمدة أسبوعين، حيث تعمل المياه على تفكيك صلابة الطمي لتحوله إلى عجين، ينقل بعد ذلك في براميل بلاستيكية، تباعاً إلى قوالب مخصصة لتشكيله على هيئة مربعات يتم تخزينها في أماكن معزولة بعيداً عن الشمس حتى تظل رطبة.

صناعة الخزف في جراجوس بمصر.. إبداع وصل إلى العالمية

وقد تستمر عملية التخزين لشهور، يحصل خلالها صناع الفخار على المادة الخام اللازمة للتشكيل عبر قوالب مخصصة، فهناك قوالب خاصة بالأطباق الزخرفية، وأخرى للأواني، وثالثة للوحات الجدارية، حتى إذا فرغ الصنّاع من التشكيل، يتم وضع المنتج داخل أفران الحريق، التي تظل مشتعلة لمدة قد تزيد على عشرين ساعة، متواصلة، إذ تتطلب عملية الحرق درجة حرارة تصل إلى ألف درجة مئوية.

صناعة الخزف في جراجوس بمصر.. إبداع وصل إلى العالمية

يدخل إنتاج القطعة الخزفية إلى مرحلة الدهان، التي تتم إما بالطريقة التقليدية باستخدام الفرشاة، أو الرش بالأجهزة الحديثة بألوان طبيعية، وغالباً ما يتم استخلاصها من الأعشاب المختلفة، قبل أن تصل الى المرحلة الأخيرة المتمثلة في النقش. ويشرح أمجد جرجس «يتميز إنتاج الخزف في جراجوس بالرسم اليدوي، الذي يتطلب مهارة كبيرة من الصناع، إلى جانب الدقة العالية في التعامل مع القطعة الخزفية، حتى تنتهي عملية التصنيع إلى منتج جيد ومتميز في شكله، وألوانه، ولعل تلك اللمسات اليدوية هي ما يميز صناعة الخزف في قرية جراجوس عن غيرها من المناطق الأخرى، التي تخصصت في تلك الصناعة».

صناعة الخزف في جراجوس بمصر.. إبداع وصل إلى العالمية

كان عشق صناعة الخزف هو الدافع الرئيسي الذي وقف وراء قرار نور شوقي لبيب، إلى تحويل منزله القديم بالقرية إلى ورشة لصناعة الخزف، بعدما قضى أكثر من عشر سنوات يعمل داخل المصنع، ويتعلم أسرار المهنة على يد عدد من كبار الأسطوات، وعن ذلك يقول نور «كانت مشكلة المعدّات اللازمة للصناعة هي العقبة الوحيدة التي وقفت في طريقي منذ البداية، لكن مع مرور الوقت تمكنت من تجهيز بيتنا القديم، وبدأت بصناعة الخزف، وتجهيزه بالطلب، عبر توفير ما يحتاجه الأهالي في قريتنا، والقرى المجاورة، من أوان ومزهريات، وغيرها من القطع الخزفية الأخرى، ثم شاركت بعد ذلك في عدد من المعارض التي أقيمت للحرف اليدوية في القاهرة والإسكندرية».

صناعة الخزف في جراجوس بمصر.. إبداع وصل إلى العالمية

يفخر نور شوقي بمهنته كخزاف، ويقول إنه لن يستغني عنها أبداً، إذ يكفيه ما تدخله تلك الصناعة عليه من بهجة، بعدما ينجح في تحويل قطعة من الطين اللزج إلى تحفة فنية تسرّ الناظرين، وهو بذلك يسير في الطريق نفسه الذي سار فيه آلاف من أهالي تلك القرية البعيدة من أعمال محافظة قنا، الذين احترفوا تلك الصناعة منذ قرون بعيدة، ولم يعرفوا لهم صنعة أخرى غير تلك المهنة التي توارثوها عن الآباء والأجداد، حتى تحولت تلك القرية على أيديهم إلى ما يشبه خط دفاع أخير عن ذلك الفن، وعن واحدة من أهم المهن التقليدية التي عرفتها مصر منذ أزمنة بعيدة، وتوشك على الاندثار.

صناعة الخزف في جراجوس بمصر.. إبداع وصل إلى العالمية

تتميز منتجات قرية جراجوس من الخزف بطابعها الشعبي والتراثي المستلهم من البيئة المحلية، و‏تتركز‏ منتجاتها في‏ ‏المزهريات‏ ‏والأواني‏ ‏والتماثيل‏ ‏والرسوم‏ ‏المستوحاة‏ ‏من‏ بيئة‏ ‏الصعيد، ما يتجلى في عشرات من الرسوم يتم نقشها على الأواني الخزفية التي تنتجها القرية، وتتضمن مفردات مثل ‏المزمار‏ البلدي‏ ‏والساقية،‏ ‏وحاملة‏ ‏الجرة‏ ‏والنباتات،‏ ‏وغيرها من مظاهر الحياة الريفية، وجميعها منتجات يمكن الحصول عليها من عشرات من المعارض التي تنظم سنوياً في مصر، ومن اشهرها المعرض الذي يقام في ديسمبر من كل عام، في مدرسة العائلة المقدسة بمنطقة الفجالة، والآخر الذي ينطلق في مايو، في كلية سان مارك بالإسكندرية، وتقدم فيه القرية أجمل ما انتهت إليه أنامل صنّاعها المهَرة، في هذا الفن التراثي البديع.

* تصوير: أحمد شاكر