تجربة ساحرة تخرج عن نطاق المألوف لكونها شاهدة على أعظم حضارات العالم القديم، والتي مع كل ما كشفته لنا من أسرار عن حقب زمنية لأُسر ما قبل التاريخ، إلا أن الغموض لا يزال يغلّفها الغموض، وتنتظر من يفك طلاسمها المبدعة، فعلى الرغم من التوقع المسبق بأن رحلة «كل الأسرة» لمدينتي الأقصر وأسوان في صعيد مصر، سوف تحمل لنا الكثير من المتعة والاندهاش، إلا أن الواقع كان أشبه بدرب من الخيال.
بجانب الآثار الفرعونية والمناظر الطبيعة الخلابة، التي يزيدها نهر النيل جمالاً، ويجعل منها لوحة فنية رسمها فنان مبدع، تتمتع المدينتان بمناخ دافئ في فصل الشتاء، نظراً لوقوعهما في جنوب مصر، ليشكل هذا الفصل ذروة النشاط السياحي، ويجذب السياح من حول العالم للاستمتاع بهذه الأجواء الساحرة.
بدأت الرحلة بالتوجه إلى مدينة الأقصر التي تُعد أهم المدن السياحية في العالم، إذ وصفها البعض بأنها مدينة الملوك، فأينما تذهب تجد أثراً ناطقاً بحضارة عظيمة، فهي «طيبة» عاصمة الدولة الفرعونية القديمة، وفيها أهم المعابد والآثار الفرعونية، وسوف نستعرض تجربتنا في بعض المزارات التي سنحت لنا الفرصة لزيارتها.
معبد الكرنك.. أقدم دور عبادة عرفها التاريخ
يعد معبد الكرنك من أهم معالم الأقصر، إذ يتميّز بوجود بهو الأعمدة الأكبر في العالم، ويضم 134 عموداً، ثم يأتي مدخل المعبد الأسطوري، ومنه ينطلق طريق الكباش الشهير، أقدم طريق احتفالي في التاريخ، وكان ملوك مصر القديمة يستخدمونه في طقوس عدة، ويبلغ طوله 2700 متر، ويربط بين معبدَي الكرنك والأقصر، حيث تصطف تماثيل أبو الهول، وتأخذ شكل رأس الكبش على الجانبين.
معبد الأقصر.. الحضارة المصرية القديمة
وبعد رحلة غامرة بين الأساطير الممتعة التي دوّنت على الجدران والأعمدة الشاهقة لتروي لنا قصص وحكايات الأجداد، كانت الوجهة الثانية إلى معبد الأقصر، ثاني أهمّ الأماكن الأثرية في المدينة، والذي تم بناؤه سنة 1400 قبل الميلاد، وتحتوي إحدى الحجرات الداخلية على مجموعة من المناظر التي توثق أحداثاً جرت قبل آلاف السنين، ويشتمل مدخل المعبد على صالة أعمدة، وصرح كبير، ومجموعة من التماثيل الضخمة، وكان الصرح يضم مسلّتين بارتفاع 25 متراً، لم يتبق منهما سوى واحدة، بينما نقلت الأخرى إلى ميدان الكونكورد بباريس عام 1836.
وقبل سرد مزيد من الأماكن الأثرية البديعة، كان لابد من الوقوف على بعض التفاصيل التي تتمتع بها تلك المدينة الكائنة في صعيد مصر، فوسط كمٍّ يصعب حصره من الآثار الفرعونية، ترسم الطبيعة هي الأخرى لوحة بديعة لتضيف للأقصر جمالاً فوق جمالها، إذ يقطع حديث المرشد السياحي لحظات الشرود التي بدت علينا، ونحن نتكهن بروعة مكان آخر نقصده، ليعلن قيامنا برحلة نيلية قاصدين جزيرة الموز، وهي من المزارات غير المعتادة في الأماكن الأثرية.
تُعد جزيرة الموز وجهة رئيسية للسائحين من جميع الجنسيات حول العالم، فهي أشبه بمملكة من الصفاء، والهدوء، والخضرة، وسحر امتزاج النيل مع أشجار الموز، رسى المركب على تلك الجزيرة التي تبلغ مساحتها 7 أفدنة زراعية، تمتلئ بأشجار الموز، وأشجار النخيل، وتوجد فيها حديقة مصغّرة تضم عدداً من الحيوانات الأليفة، كما توجد في الجزيرة بحيرة صغيرة فيها بعض أنواع البط والإوز، وأبراج الحمام، لرسم البهجة على وجوه الزوار، الذين يحرصون على التقاط الصور التذكارية معها.
وادي الملوك.. مقابر ملكية يكسوها الغموض
في مشهد لا يقل إثارة وغموضاً، جاء الوقت لزيارة وجهة أثرية أخرى لا تقل أهمية عن نظيرتها، حيث ولادة مزيد من الحكايات الكثيرة حول أسرار الفراعنة التي ظهرت جلية في تحنيط موتاهم، إنه وادي الملوك، في البر الغربي من المدينة، والذي أطلق عليه «جبانة طيبة»، الذي اختاره الفراعنة لتخليد ملوكهم.
يعود تاريخ وادي الملوك بصفته مقابر لدفن الفراعنة، إلى عام 1550 قبل الميلاد، ويرجّح أن أول حاكم فرعوني دفن فيه هو تحتمس الأول، وآخر من دفن فيه هو رمسيس الحادي عشر، آخر ملوك الأسرة العشرين.
وتتكون المقابر الملكية في وادي الملوك من ممرات أو دهاليز ضيّقة، تأخذ روادها إلى عالم الدهشة والغموض، لما تتضمنه من روعة النقوش على الجدران الصخرية في باطن الجبل، والتي لا تزال تحتفظ بألوانها ورونقها رغم مرور آلاف السنين، وفي جولة قصيرة تم السماح لنا بزيارة بعض المقابر، منها مقبرة رمسيس الرابع، ورمسيس التاسع، ورمسيس الثالث.
والأهم من ذلك كله كانت مقبرة الملك توت عنخ آمون، التي تحاط بالألغاز ليس فقط لما تتضمنه من قطع أثرية بلغ عددها 5600 قطعة، منها تابوت ذهبي يزن 110 كيلوجرام من الذهب، إضافة إلى قِلادات وحليّ ذهبية، وقطع أثاث، وكراسي، ومصابيح بالزيت، ومخزونات غذاء، وبخور وعطور، وغيرها، بل لما حدث لمن شاركوا في اكتشافها عام 1922، إذ يشير المؤرخون إلى أن 40 شخصاً ماتوا جميعاً بعد فتح المقبرة بفترة، بمن فيهم مموّل رحلة الاكتشاف، اللورد كارنافون.
معبد حتشبسوت في الدير البحري
وجهة أخرى لا تقل هيبة وجمالاً عن مزارات الأقصر، حيث معبد «حتشبسوت»، ابنة الملك تحتمس الأول، والتي لُقبت بـ«سيدة الأرضين»، كانت أشهر وأقوى ملكات مصر، داعبها طموحها، وبريق السلطة فتصرفت كأنها ملك ذكر، وتم ذكرها في النصوص، وتصويرها في المناظر في هيئة الملوك الرجال، حكمت مصر 20 عاماً، بعد وفاة زوجها الملك تحتمس الثاني، وإبعادها للوريث الشرعي الملك تحتمس الثالث، ابن زوجها الذي كان صغير السن عند وفاة والده. أقامت حتشبسوت معبداً خاصاً بها في الدير البحري، على الضفة الغربية للنيل، ويتكون من ثلاثة طوابق متتابعة، على شرفات مفتوحة، وبُني من الحجر الجيري، ولا تزال بعض تماثيله في حالة جيدة، وتدلّ على أناقة تصميم المعبد، وجماله.
أسوان.. الطبيعة في أبهى صورها
انتهت جولتنا في مدينة الأقصر، لتكون وجهتنا في صباح اليوم التالي إلى مدينة أسوان، التي تبعد عن الأقصر بنحو 300 كم، وفيها تطل الطبيعة مرتدية أجمل حلتها. وكانت أولى محطاتنا زيارة السد العالي، هذا الصرح العظيم الذي بُني بأيدي المصريين، وبدأ بناؤه عام 1960 في عهد الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، وافتتح بعد وفاته في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، عام 1971، وبُني للتحكم في تدفق المياه، والتخفيف من آثار فيضان النيل. ثم تلا ذلك زيارة خزان أسوان، أو سد أسوان، الذي وضع حجر أساسه الخديوي عباس حلمي الثاني عام 1926 للتحكم في تصريف المياه أثناء فيضان النيل.
معبد فيلة.. جزيرة أثرية
كانت وجهتنا التالية في مدينة السحر والجمال والطبيعة الخلابة، زيارة جزيرة وسط مياه النيل الخالد يوجد عليها معبد يُعد من أهم المزارات الأثرية في أسوان، إلا أن الاستمتاع بطريقة الذهاب هو ما أثار حماسنا.
اصطف الجميع خلف المرشد السياحي ليعلن عن بداية الرحلة والانتقال إلى هذا المعبد عبر القوارب النيلية، لتتجلى الطبيعة معلنة كشف الستار عن أبهى صورها، حيث الجزر الصخرية وسط المياه العذبة، وجمال مشهد طيور النورس المصاحبة للسائحين طوال الرحلة طمعاً في إعطائها بعضاً من كسرات الخبز، بجانب البيوت البسيطة المشهورة بألوانها البديعة التي تزيّن ضفتي النيل، وغيرها من المناظر البديعة التي تسحر الناظرين، ليقطع هذا الجمال الإعلان عن الوصول لوجهتنا، وهو معبد فيلة.
يرجع اسم فيلة، أو فيلاي، إلى اللغة الإغريقية، وتعني الحبيبة، وبالقرب من خزان أسوان كانت تستقر جزيرة فيلة التي تضم المعبد الذي يروي قصة إيزيس وأوزوريس، ولكنها غرقت بالكامل، ليتم لاحقاً تجميع محتواه وإعادة تشييده على جزيرة أجيليكا التي تبعد عن فيلة نحو 500 متر، فعلى مدار 8 سنوات تم فك ونقل نحو 4200 كتلة أثرية، وأعيد تركيبها بدقة، وصون نقوشها.
تضم آثار معبد فيلة العديد من الصروح التي يعود تاريخها إلى العصر البطلمي، 332-30 قبل الميلاد، وأبرزها المعبد الذى بدأه بطلميوس الثاني، والذي كان مكرساً لإيزيس أم حورس، ويحظى الزوار بالاستمتاع ليلاً بعرض الصوت والضوء والاطلاع على تفاصيل كل القصص الموجودة على الجدران بلغات مختلفة.
وبعد جولة ممتعة في معبد فيلة، اختتمت الرحلة بالتجول في أكثر الأسواق شهرة في مدينة أسوان، إذ يشتهر السوق السياحي بوجود العديد من الأكشاك والمتاجر التي تبيع السلع والمنتجات المشهورة بها المدينة.