02 يونيو 2022

هل تشجع شبكات التواصل الاجتماعي على النرجسية؟

أستاذة وباحثة جامعية

هل تشجع شبكات التواصل الاجتماعي على النرجسية؟

في هذا العالم الذي يزداد تنافسية، تسلّم نرجسيون المواقع المهمة، وصار المجتمع المعتمد على مهارة الأداء وعلى الاستهلاك يدفع الأفراد إلى التركيز أكثر فأكثر على أنفسهم، معززًا بهذا سماتهم النرجسية ليختار من بينهم الأشد نرجسية فيرفعه إلى أعلى المناصب.

في كتابه "أصحاب النرجس" يوضح د. ماري فرانس إيريغويين كيف تشجع شبكات التواصل الاجتماعي على النرجسية؟

هل تشجع شبكات التواصل الاجتماعي على النرجسية؟

لا حياة للنرجسي إلا من خلال نظرة الآخر. لهذا السبب يصير النرجسي ملكًا في مجتمع الصورة والمظاهر، ويستخدم هاتفه الذكي كمرآة حيث إن الصورة الذاتية أو «السلفي» لا تكون عبارة عمّا يراه النرجسي بل هي صورة الذات من خلال نظرة الآخر إليها.

وفي حين كنا في السابق نصور اللحظات المميزة من الحياة الجماعية كالزيجات والأعياد، صار الفرد في الحياة العصرية يقوم بصور «سلفي» ينشرها في ما بعد على «إنستغرام» أو «فيسبوك».

وبدل أن يعيش اللحظة الراهنة يصير هو المشهد حين يدير ظهره للمنظر التاريخي أو الطبيعي معلنًا للعالم أجمع على الشبكات الاجتماعية: «كنت في هذا المكان أو مع هذا الشخص».
أو حين يشارك الآخرين متعته في المطعم فيرسل صورة عن الأطباق التي يتناولها معلقًا «انظروا ماذا أكلت».

في العصر الرقمي حلّت الصورة مكان الحياة وصار حب الذات هو حب صورة الذات. لكن الصورة ليست الحقيقة، هي تقدم لحظة وحسب، كما تقدم ما نود إظهاره للآخرين، أي أنها صورة «مفبركة» و«أنا مزيفة» تهدف إلى التطابق مع توقعات الآخرين.

صورة الأنا المثالية عند النرجسي

هل تشجع شبكات التواصل الاجتماعي على النرجسية؟

يفرض العصر الحالي على المرء أن يكون مرئيًا، ولكن لشدة ما صار التركيز على الذات قويًا، لم نعد نلتقي إلا بأنفسنا وبأشباهنا.

تخلق الشبكات الاجتماعية ومحركات البحث المشخصنة عالمًا يتم فيه حذف الآخر الذي يفكر بطريقة مختلفة.

في عالم الصور هذا، يجب أن يكون المرء جميلاً ورشيقًا ونشيطًا كما يجب أن يبدو سعيدًا حتى يعطي صورة النجاح.

وقد صار شكلنا هو رأس المال الذي يجب أن نوظف فيه يوميًا طاقاتنا حتى نعثر على وظيفة أو نعثر على حب حياتنا.

وإذا كان النرجسي، أو النرجسية، يمضي وقته وهو ينظر إلى نفسه فهذا لأنه يترصد أول إشارات السقوط «هل سأبقى على المستوى المتوقع مني؟»، هو يعتبر نفسه بضاعة قابلة للتشكيل والتحسين.

ولهذا ينحت جسمه بواسطة رياضة كمال الأجسام ويعدله بواسطة الجراحة التجميلية ويصحح التجاعيد بواسطة حقنات البوتكس ويطبع وشمًا حتى يصبح الجسد تحفة فنية.. هي عمليات تحسين لا تنتهي لأن الأبحاث في البيوتكنولوجيا والعلوم المعرفية تخطط لتحسين الإنسان أكثر فأكثر لمضاعفة قدراته ومضاءلة أمراضه وآثار الشيخوخة وحتى للتغلب على الموت.

وبدل أن يكون النرجسي هو ذاته بصدق، ينمي صورته بواسطة استعارات يتماهى معها لتحل محل صورة الأنا المثالية. وهكذا، تجد شخصيات أيقونية من مغنين وممثلين أو قادة كارزميين مشهورين يعرضون حياتهم للملأ كما لو أنهم في احتفال لا ينتهي.

وحين يتماهى الناس مع هذه الشخصيات، يسهمون في صناعة مسوخ وفي توطيد نرجسيتهم بقدر ما تزداد شهرتهم. فمهما كان مقدار موهبة هذه الشخصيات المفبركة، ينبغي عليها أن تبقى محتلة المواقع الأولى إذا ما أرادت أن تستمر في وسائل الإعلام.

قد يقال إن المسألة ليست جديدة لمن تابع حكايات نجوم هوليوود، لكنها تندرج اليوم في سياق قواعد اجتماعية وتقنية ونفسية جديدة.

الإدمان النرجسي على الشبكات الاجتماعية

هل تشجع شبكات التواصل الاجتماعي على النرجسية؟

تعزو دراسات أميركية عديدة انتشار النرجسية المتزايد في المجتمعات الحديثة إلى المساحة المتزايدة التي تحتلها الشاشات والشبكات الاجتماعية في حياة كل واحد منا. بيد أنه يجب أن نشير إلى أن وسائل التواصل الجديدة لا تجعلنا أكثر نرجسية، بل هي طريقة جديدة لكشف نرجسية موجودة، لأننا نجد على الإنترنت السلوكيات النرجسية ذاتها التي نصادفها في الحياة الحقيقية.
لكن مما لا ريب فيه أن الإنترنت تجعل النرجسيين أكثر ظهورًا لأنها تمكنهم من مضاعفة عدد محاوريهم ومعجبيهم إلى ما لا نهاية.

ليس الإنترنت ووسائل التواصل الجديدة مجرد قناة اتصال تحمل المعلومات وحسب، بل هي تؤثر في قدراتنا المعرفية وفي أفكارنا وتؤثر بالتالي في شخصيتنا.

وفي ما وراء الأخبار المزيفة، تقدم الإنترنت لكل متصفح أخبارًا ومعلومات تناسب أذواقه وآراءه السياسية، وهذا ما يؤدي إلى تشكل «فقاعات معرفية» تجمع أشخاصًا يفكرون بالطريقة ذاتها ولا يتعرفون إلا قليلاً إلى آراء مختلفة عن آرائهم.

وفي عصر المعلومات الجديد، يشهد دماغنا تحفيزًا زائدًا يرضي الرغبة بكل ما هو جديد لكنه قد يقود كذلك إلى استخدام قهري للشبكة، أي إلى الإدمان.

ومع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، لم تعد أغلبية السلوكيات الإدمانية تتعلق بالمخدرات أو الكحول ولكن باستخدام الإنترنت. وهذا ليس بالأمر المدهش، فمنطقة الدماغ التي تنشط حين يقوم مستخدم «فيسبوك» بإحصاء الـ«لايك» هي ذاتها التي تنشط حين يتناول المدمن على المخدرات حصته منها.

تلفزيون الواقع والـ«Talk Show»

هل تشجع شبكات التواصل الاجتماعي على النرجسية؟

وفي مجال آخر، يشكل تلفزيون الواقع نوعًا من مرآة عملاقة توضع أمام النرجسيين حيث يمكنهم أن ينظروا إلى أنفسهم لأن برامج هذا التلفزيون تختار الأشخاص أولاً وقبل أي شيء آخر لأنهم يحملون نرجسية مرضية.

يتم اختيار المرشحين على نموذج الأطفال المفسودين الذين لا يضع لهم أهلهم أي حدود. هم من النوع مركزي الذات مع أنانية منفلتة من عقالها، قادرون على التفاخر بشكل مفرط بكل ما يقومون به، محتقرين بشدة المتبارين الآخرين. قد يتماهى أي فرد لديه استعدادات نرجسية مع هؤلاء «الأبطال»، والمراهقون الذين يسهل التلاعب بهم أكثر من سواهم قد يظنون أن السلوكيات التي يرونها قاعدة يمكن أن تحتذى.

وتلوح برامج تلفزيون الواقع للشباب الذين لا يملكون أية موهبة معينة بالنجاح والمجد المدوي. وتنجح أحيانًا في إبراز شخصيات لا ميزة لديها سوى أنها نجحت في مجال الشهرة.

ويظن المرشحون أنهم قد نالوا الشهرة لأن ملايين الأشخاص قد رأوهم في حين أن شهرتهم لا تعتمد على موهبتهم بل على انفلاتهم من أي رادع وسهولة التأثير فيهم.

في الحقيقة، إن منتجي هؤلاء البرامج يعملون على التلاعب بهم إذ يطلبون منهم أن يكونوا «على طبيعتهم» ويحثوهم على كشف حياتهم الخاصة مع التشديد على سماتهم من أجل جلب المشاهدين وإرضاء فضولهم، حيث ينبغي الكشف عن كل شيء حتى عن أدق الجراح الدفينة. المهم هو مفاجأة المشاهد، وكلما كانت المشاهد صادمة زادت أعداد الجمهور وانتشر البرنامج على كل شفة ولسان.

وقد جرى تصميم برامج «التوكشو»Talk Show ، أو برامج تدعي أنها نقاشات اجتماعية، من أجل أن يحصل فيها فيض من الانفعالات، حيث لا نعود نميز بين الخبر وبين الرغبة الواضحة في زيادة أعداد المشاهدين.

وفي ما يتعلق بالمواضيع الاجتماعية الأشد حساسية، يكون المطلوب هو خلق صدام بين الأطراف «المتحاورة»، لذا تدعو هذه البرامج الشخصيات التي تحسن إثارة الجدالات أو الفضائح بدل دعوة أشخاص جديين.

صحيح أن أرقام العائدات الإعلانية المتصلة بحجم الجمهور أهم تجاريًا من نوعية البرنامج في سياق من وفرة المعلومات الهائلة وحيث صار من الصعب أكثر فأكثر جذب انتباه المشاهدين.
لكن هل تلفزيون الواقع أو «التوكشو» هو الذي يسبب السلوكيات النرجسية أم أن النرجسيين هم الذي ينجذبون إلى هذه البرامج التي تجعلهم ينخرطون أكثر فأكثر في ما هم عليه؟

هل تشجع شبكات التواصل الاجتماعي على النرجسية؟

في دراسة أميركية أجريت في العام 2016 تحمل عنوان «هل يشجع التلفزيون على النرجسية؟»، تم تحليل عادات المشاهدة لدى حوالي ستمئة رجل وامرأة في الولايات المتحدة.

وارتكزت فرضية الباحثين على القول أن من يشاهد برامج تلفزيون الواقع يحمل مستوى أعلى من النرجسية مقارنة بسواه. وقد طلبوا من 565 طالبًا أن يحصوا المرات التي شاهدوا فيها هذه البرامج والمدة الزمنية التي قضوها في مشاهدتها.

ثم أخضعوا هؤلاء الطلاب إلى اختبار نفسي لكشف درجة النرجسية لديهم وتبين أن الأشخاص الذين يهتمون بالأخبار هم أكثر انخراطًا على مستوى الحياة المدنية في حين أن من يشاهدون مطولاً عددًا كبيرًا من برامج تلفزيون الواقع قد سجلوا معدلات عالية من النرجسية في الاختبار.

ومما لا شك فيه أن العوامل العديدة التي تسهم في نشر النرجسية وجعلها واضحة أكثر فأكثر في أيامنا هذه لا بد أن تفعل فعلها كذلك في مجالات الحياة اليومية وفي العلاقات العائلية والمهنية كما في المجتمع بأسره.

اقرأ أيضاً: ما أشكال النرجسية الأكثر خطورة وكيف تؤثر في حياتنا؟