ّتمر بنا الأيام، وغالباً لا نشعر بالزمن، وبما أن المستقبل غيب، ولا نفكر فيه إلا كحلم نسعى لتحقيقه، فإننا نتوقف في أكثر الأحيان في محطات الماضي، نقتات الذكريات؛ الجميلة والمؤلمة، لا فرق.. ولكلّ محطة من المحطات إشارة، بصرية أو سمعية، فنحن نعود إلى الماضي مع كلمة، أو صورة، أو رائحة، تنقلنا الحواس لنتوغل في الدماغ، نسأله أن يعيد لنا الأحداث فيفعل.. لكن ثمة ذكريات، يُحتفظ بها الدماغ لنفسه، فلا يبثها حين نطلبها منه ولو ألحَحنا عليه، وهي ذكريات الطفولة الأولى، أي كلّ ما مرّ بنا من أحداث في السنوات الثلاث الأولى من العمر.
فحتى الآن، ما زالت ملفّات هذه الأحداث مودوعة في غياهب الدماغ، وما زال الباحثون يسعون لمعرفة مكانها، وكيفية الوصول إليها. ويبدو أن الباحثين لم ييأسوا، وهم ما زالوا يعكفون على دراسة أحد مجاهل النفس البشرية، لمساعدة الإنسان على اصطياد ذكريات السنوات الأولى من العمر، حيث الزمن قصير نسبياً، ولكننا نتعلم فيه الكثير.
«فقدان ذاكرة» غير واضح المعالم
قد يظن الإنسان أن كل ما مرّ به في طفولته الأولى قد اندثر في متاهات الزمن، وأنه لا يحتفظ بأيٍّ من ذكريات ذلك الماضي البعيد، لكن دراسات حديثة أثبتت أن الدماغ يحتفظ بأحداث الطفولة المرتبطة بالسنوات الثلاث الأولى من العمر، بكل تفاصيلها، لكن وعي الإنسان لا يستطيع الوصول إليها فيستعيدها، ويعرضها مجدداً أمام عينيه، وفي مخيّلته، كما يفعل مع الذكريات التي تشكلت بعد ذلك.
خطواتنا الأولى وأول تعثر بها، كلماتنا الأولى ومحاولة لفظها.. طعامنا الأول وتلذذنا به.. إلخ.. معظمنا لا يتذكر هذه الأحداث الأساسية في حياتنا التي تشكل مرحلة التعلم المكثف، والتجارب الأولى. وقد يكون لدى الكثير منّا انطباع بأنهم يتذكّرون أحداث هذه المرحلة، فإن كان الأمر كذلك، فإنه حتماً مبنيّ على صور وحكايات يرويها الوالدان والأقربون. فنحن نعيش حقاً ظاهرة اسمها «فقدان الذاكرة» لمرحلة الطفولة الأولى.
دراسات غير كافية لظاهرة فقدان الذاكرة لمرحلة الطفولة
نشرت مجلة العلوم الفرنسية، مؤخراً، مقالاً سلطت فيه الضوء على الأبحاث الحالية المتعلقة بفقدان الذاكرة لمرحلة الطفولة، وقد أكد المقال أن الأحداث التي كنا نظنها تبخّرت مع السنين ما زالت في الدماغ، لكننا لا نملك مفاتيحها. وقد أثبتت دراسات عدة، أجريت على فئران التجارب الصغيرة، أن الزمن لا يسرق ذكريات الطفولة الأولى، فهي في حالة ركود، وقد تطفو على السطح بمجرد أن يوقظها عامل منشّط. ولكن كيف يُفسّر فقدان الذاكرة هذا علمياً؟
يرى بعض الباحثين أن سبب فقدان الذاكرة لمراحل الطفولة الأولى يرتبط بتكوين الخلايا العصبية في الدماغ، ففي السنوات الأولى من العمر، يكون تكوين الخلايا العصبية في ذروته، وتتشكل خلايا عصبية جديدة فتخطّ أحداثاً جديدة فوق الذكريات المبكرة فتطمسها، وتدفعها إلى الأعماق، فيصعب على الوعي نبشها، والوصول إليها.
وثمة فئة أخرى من الباحثين، يرون أن الأمر يرتبط ببساطة بالنضج الطبيعي للدماغ الذي يخضع لتغيّرات كبيرة في بنيته ووظيفته في السنوات الأولى من العمر، وهذه التغيّرات يمكن أن تؤثر في تكوين الذكريات وتخزينها، والقدرة على الوصول إليها.
وأخيراً، تشير إحدى النظريات إلى نهاية «الفترة الحرجة» من النمو التي يكون فيها الدماغ مرناً وحسّاساً للتجارب بشكل خاص، وبذلك يكون فقدان الذاكرة في مرحلة الطفولة الأولى بمثابة نهاية لهذه الفترة.
ويبقى سؤال يطرح نفسه، هل يتذكر الإنسان عندما يكبر ما مرّ به من أحداث فاقت قدرة الطفولة على تحمّلها، كالتشرّد، والجوع، والألم، والرعب، ومشاهدة القتل والدمار؟