"زواج مع وقف التنفيذ".. الإسلام يدين الاحتفاظ بزوجة بهدف التنكيل بها والانتقام منها
العناد والرغبة في الانتقام كثيراً ما يدفع بعض الأزواج إلى التعامل مع زوجاتهم بلا إنسانية، حيث يترك الزوج زوجته معلقة -لا هي متزوجة ولا هي مطلقة- للتنكيل بها والانتقام منها، ومنع زواجها من رجل آخر.. فكيف ينظر الإسلام إلى هذا السلوك الذي نراه حقيقة واقعة في حياتنا؟ وكيف تتخلص الزوجة من زوج لا ترغب في الاستمرار معه؟
تساؤلات كثيرة وضعناها على مائدة عدد من علماء الشريعة الإسلامية ورجال الفتوى.. وكانت هذه توجيهاتهم:
حجم المشكلة في المحاكم
البداية مع رجل القانون المصري الأستاذ سعد عبدالله، المحامي المتخصص في شؤون الأسرة، ليحدثنا عن واقع وحجم المشكلة في ساحات المحاكم..
فيقول: «للأسف، ساحات المحاكم مزدحمة بزوجات يائسات كرهن الحياة بسبب تعسف وظلم الأزواج، وإساءة التعامل معهن، وإهدار حقوقهن، ما دفعهن إلى ترك منازل الزوجية وطلب الطلاق للضرر أو بالتراضي، دون أن يجدن ما يساعدهن على التخلص من أزواج مسيئين، وضياع سنوات من عمرهن جرياً في المحاكم دون الحصول على حريتهن».
ويضيف: «هذه المشكلة تتسبب في ممارسة العنف بين الزوجات وأزواجهن، وهناك حالات أذى بدني حدثت لبعض الأزواج نتيجة هذا العناد وتلك القسوة في التعامل، خاصة وأن تعاليم الدين هنا واضحة وتتلخص في عبارة قرآنية بليغة وهي قوله تعالى: «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ».
ويؤكد رجل القانون المصري أن خلو العلاقة الزوجية من مشاعر المودة والرحمة التي حث عليها الإسلام حوّلها إلى صراعات ومشاجرات وخناقات ومشاعر متبادلة بالنفور والرغبة في الانتقام، وعندما تصل العلاقة إلى هذا المستوى من البغض والكراهية يجب أن تنتهي لمصلحة الطرفين.
لا حياة زوجية بالإكراه
سألنا د. شوقي علام، مفتي مصر السابق وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، عن موقف الشرع من قسوة وعنف بعض الأزواج في التعامل مع زوجاتهم في حالة حدوث خلاف ووصول العلاقة إلى طريق مسدود..
فأجاب «هذا العنف يرفضه الإسلام ويدينه، فالإسلام هو من جعل المودة والرحمة أساساً لعلاقة الرجل بزوجته، ولذلك لا يقبل ظلم النساء في بيوت أزواجهن، ولا يقبل أن تعيش المرأة حياة قاسية تخلو من المودة والرحمة التي أشار إليها الحق سبحانه بقوله: «وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً»..
فبيَّت أن الزوجية ليست سجناً للمرأة، والشريعة الإسلامية العادلة لا تعطي الرجل حق الاحتفاظ بزوجته الكارهة له كيفما يشاء، بل هي تمنح كل امرأة متزوجة وصلت علاقتها بزوجها إلى طريق مسدود حق التخلص من حياتها الزوجية البائسة، ومن زوجها المسيء الكارهة له، غير القادرة على استمرار معاشرته».
أكثر ما تعرضت له بيوت من عنف وإجرام بسبب إصرار الزوج على عدم تطليق زوجته بقصد الإضرار بها
وهنا يشدد مفتي مصر السابق على أن العلاقة الزوجية في نظر الإسلام تُبنى على الحب والتفاهم والود والتعاون، «عندما تغيب عن العلاقة الزوجية كل هذه المعاني السامية والمشاعر الفياضة تتحول إلى علاقة جافة كئيبة لا تثمر إلا العناد والكراهية والجفاء والقسوة والرغبة في الانتقام..
وفي هذه الحالة يكون أبغض الحلال هو الحل الأمثل ليذهب كل طرف إلى حال سبيله، وليغن الله كلاً من سعته بدلاً من الاستجابة لشياطين الجن والإنس والاستسلام للانتقام، وما أكثر ما تعرضت له بيوت من عنف وإجرام بسبب إصرار الزوج على عدم تطليق زوجته بقصد الإضرار بها».
الطلاق.. بعد فشل التوفيق
وهل من حق الزوجة طلب الطلاق بمجرد الخلاف مع زوجها؟
يبين د. علام «الطلاق أبغض الحلال عند الله عز وجل ولا ينبغي التفكير فيه إلا عند وجود ما يستدعيه.. ولذلك فإن التفكير في الطلاق كحل لعلاقة زوجية متعثرة لا يأتي إلا بعد استنفاد كل وسائل الإصلاح والتوفيق بين الزوجين، لأن الإسلام يحرص حرصاً شديداً على استقرار العلاقة الزوجية، ويدعو الزوجين إلى التغلب على خلافاتهما واستمرار حياتهما على نحو يحقق لهما السعادة والرضا والانسجام النفسي والعاطفي والاستقرار الأسرى والاجتماعي».
ويضيف «الزواج في نظر الإسلام علاقة دائمة إلى أن تنتهي حياة الزوجين، وهذا يفرض عليهما أن يبذلا ما في وسعهما لمواجهة ما يعترض حياتهما من خلافات ومشاجرات ومنازعات حتى يجدان الراحة، وينعمان بالهدوء والسكينة، ليتمكنا من تنشئة أولادهما تنشئة صالحة..
فإذا بذلت جهود الإصلاح ولم يتحقق الوفاق كان الفراق هو الحل، والله سبحانه وتعالى يقول: «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ».. كما يقول سبحانه: «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا».
رسالة لكل زوج عنيد
وهنا يوجه مفتي مصر السابق رسالة لكل رجل يعاند زوجته ويرفض تطليقها لمجرد الرغبة في قهرها والتنكيل بها «اتقِ الله فسوف يحاسبك الله على ما تفعله معها، ولو كنت حريصاً على تعاليم وأحكام دينك وتخاف عقاب خالقك عليك أن تبادر بتطليق زوجتك إذا ما وصلت علاقتك بها إلى طريق مسدود، وفشلت كل جهود الإصلاح، فكل الرجال العقلاء يفعلون ذلك..
لكن إذا ما رفض الزوج التطليق واستمر على عناده والإبقاء على زوجته معلقة، لا هي متزوجة ولا هي مطلقة، فقد وضعت شريعة الإسلام أقدامها على طريق الخلاص من زوجها المسيء بوسائل عدة أبرزها الطلاق للضرر لو كان هناك ضرر مادي تستطيع الزوجة إثباته للقاضي».
آثم شرعاً
د. سيف قزامل، عالم الشريعة الإسلامية الأزهري، يضم صوته لصوت د. شوقي علام ويؤكد ضرورة الوقوف عند تعاليم الشرع، وتطليق الزوجة عند إصرارها على رفض استمرار علاقتها بزوجها، أو عند وجود دليل مادي يؤكد الإضرار بها، «كل زوج يصر على الإبقاء على زوجة كارهة له بهدف قهرها أو التنكيل بها هو رجل آثم شرعاً».
وعن طبيعة الأضرار المادية التي تستوجب الطلاق، يوضح أستاذ الشريعة الإسلامية بالأزهر «الأضرار التي توجب الطلاق كثيرة ومتنوعة منها: عجز الزوج عن القيام بواجباته الزوجية، ومنها الإصرار على التضييق على المرأة وإيذائها بدنيا بالضرب، ومنها امتناعه عن الإنفاق عليها مع يسره، أو معاشرتها من غير الطريق الشرعي، أو هجرها في الفراش دون سبب منها لمدة أربعة أشهر، أو القسم بعدم معاشرتها لنفس المدة.. أو غاب عنها في سفر لمدة تجاوزت الستة أشهر».
لا يجوز للمرأة أن تطلب الطلاق إلا إذا وُجد سبب لذلك
وماذا عن بعض الزوجات اللاتي يطلبن الطلاق لخلافات بسيطة تحدث كثيراً بين الأزواج ويمكن حلها؟
يجيب د. سيف قزامل «لا يجوز للمرأة أن تطلب الطلاق إلا إذا وُجد سبب لذلك، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا السلوك فقال: «أيُّما امرأةٍ سألَتْ زوجَها طلاقَها في غيرِ ما بَأْسٍ؛ فحرامٌ عليها رائِحَةُ الجنةِ».
لكن يجوز للمرأة طلب الطلاق إذا وقع عليها ضرر من زوجها، كالذي ذكرناه آنفاً أيضاً يجوز للزوجة طلب الطلاق إذا كان الزوج دائم الإهانة لزوجته بالضرب أو بالقول ولم يستجب للنصيحة من أهل الإصلاح، كما يجوز للزوجة طلب الطلاق إذا تضررت بسفر زوجها كأن سافر الزوج أكثر من ستة أشهر وخافت على نفسها الفتنة..
ويلحق بذلك إذا حُبس زوجها مدة طويلة وتضررت بفراقه، وطلبت زوجته ذلك وادعت الضرر، وذلك بعد سنة من حبسه».
ويواصل «وأجاز بعض الفقهاء تطليق المرأة إذا رأت المرأة بزوجها عيباً مستحكماً كالعقم، أو عدم القدرة على الوطء، أو مرضاً خطيراً منفراً ونحو ذلك، أيضاً إذا وجدت في نفسها نفرة منه وبغضاً شديداً في قلبها ولو لم تعرف سبب ذلك فإنها معذورة في طلب الطلاق..
وفي هذه الحالة يُستحب لزوجها أن يطلقها إذا رأى منها عدم التحمل والصبر بحيث يعوزها ذلك إلى الافتداء والخلع، فإن في طلبها الطلاق تفريجاً لما هي فيه من الكربات ولا إثم عليها في ذلك».
علاقة يرفضها الإسلام
من جانبها، تؤكد د. عفاف النجار، العميدة الأزهرية السابقة، أن الشريعة الإسلامية، وهي شريعة عادلة وتحمي حقوق كلٍّ من الزوجين، ترفض وتدين كل صور الإكراه في العلاقة الزوجية، فالتراضي والوفاق هو أساس هذا الارتباط النفسي والوجداني ولذلك تصف كل علاقة تقوم على الإكراه بأنها علاقة غير شرعية..
وتشرح «الحياة الزوجية ارتباط شرعي ونفسي واجتماعي ومادي ومعنوي بين رجل وامرأة، فالله سبحانه يحيط هذه العلاقة بالمودة والرحمة فيقول: «وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً»..
ويقول أيضاً في شأن العلاقة بين الزوجين:«هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ»، ولا يمكن أن تستقيم الحياة الزوجية وتحقق ثمرتها في تحقيق السعادة والأمان النفسي دون وجود حب وطمأنينة بين طرفي العلاقة الزوجية».
الطلاق في حالة الضرر حق للزوجة، كما أنه حق للرجل عندما يرى في زوجته ما لا يرجوه منها
فأساس العلاقة الزوجية هو الوفاق والتفاهم والانسجام بين الطرفين، وقد لا يحدث وفاق بين الزوجين وتفشل جهود الإصلاح بينهما في حالة الشقاق وهنا يكون الحل الذي قرره الخالق هو (الفراق) ليذهب كل طرف إلى حال سبيله، فالطلاق في حالة الضرر حق للزوجة، كما أنه حق للرجل عندما يرى في زوجته ما لا يرجوه منها..
وهذه النهاية الشرعية تجنِّب الأزواج والزوجات والمجتمع كله مصائب كثيرة لو لجأنا إليها دون تعنت وتعسف وإساءة.
والفراق وفق توجيهات الإسلام يكون بالمعروف والتراضي ودون إهانات متبادلة وقضايا ومحاكم وفضائح وكشف أسرار أمر الإسلام بكتمها، فهذا هو الخيار الأفضل الذي يلجأ إليه كل زوج عاقل ومحترم، وهذا أهون وأرحم وأقل خطراً من حياة الإكراه والعناد والقهر النفسي التي يهواها البعض للانتقام من الطرف الآخر دون تقدير لما كان بينهما من مودة ورحمة وعشرة طيبة في يوم من الأيام».
وهنا تؤكد الأستاذة الأزهرية أن الحرص على تعاليم الإسلام والالتزام بما جاءت به شريعتنا السمحة من تعاليم وأحكام تنظم العلاقة بين الطرفين في حالة الوفاق وفي حالة الشقاق تخلصنا من كل ما نعانى منه الآن وتريح المحاكم والقضاة من الانشغال بحسم مئات الآلاف من القضايا الأسرية.
متى يطلق القاضي؟
يقول د. أحمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، «الأصل أن الطلاق يصدر من الزوج وليس من أي أحد غيره، فقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله؛ إن سيدي زوجني أمته وهو يريد أن يفرق بيني وبينها، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ أَمَتَهُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا الطَّلاَقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ».
لكن الفقهاء قالوا: إن دعوى الخلع تكون في الأحوال الفردية ويكون الحكم فيها من القاضي، فلو أن الزوج أقيمت عليه دعوى خلع، وقال الزوج لن أطلق.. فالزوجة في هذه الحالة تنتقل من الخلع إلى الطلاق للضرر، وهذا يكون بمسوغات أمام القاضي..
فالقاضي هنا لا يطلق في حالة الخلع، ولكن له أن يطلق المرأة من زوجها في ثلاث حالات، وهي:
- الغيبة الطويلة وهي أربعة أشهر.
- الإعسار بالنفقة.
- الضرر.
وهنا يوضح د. كريمة أن شريعة الإسلام كما أعطت الرجل الحرية في طلاق زوجته إذا كان كارهاً للحياة معها؛ فإنها قد أعطت المرأة الحرية في أن تطلب مفارقة زوجها متى كانت كارهة للحياة معه في مقابل أن تدفع له ما كانت قد أخذت منه مهراً، أو أن تدفع له ما يتفقان عليه من مال..
والخلع يكون بتراضي الزوج والزوجة فإذا لم يتم التراضي بينهما رفعت أمرها إلى القاضي، وعلى القاضي متى اقتنع بوجهة نظر الزوجة أن يُلزم الزوج بالخلع، لأن ثابت بين قيس وزوجته رفعا أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينهما في مقابل أن ترد الزوجة لزوجها الحديقة التي جعلها مهراً لها.
وهذا من عدالة الإسلام في أحكامه التي تعطي الزوج حقه وتعطي الزوجة حقها دون محاباة أو ظلم لأحد.
اقرأ أيضاً: 9 خطوات وأفكار لـ "إعادة إعمار" البيوت بالحب وإحياء جذوة الرومانسية بين الزوجين