شيخة الحاي: التراث الشعبي جزء مهم من تاريخنا وأخشى عليه من الاندثار
تشغلها مخاوف اندثاره، فأخذت على عاتقها توثيقه حتى دوّنت مئات المفردات الخاصة بالتراث الشعبي، الذي تعتبره جزءاً مهماً من تاريخ الإمارات. تسعدها جلسات الشواب المهتمين بالبحر، كما تهتم بالسفر لتدوين كل ما يتعلق بالأساطير، وعالم صنّاع السفن الخشبية. لديها بعض المؤلفات التي توثق التاريخ المَروي، وتُعد مرجعاً لمن يبحث عن تراث أجداده.. هي الخبيرة الإماراتية شيخة محمد الحاي، الباحثة والكاتبة في التراث.
لديك أكثر من كتاب يوثق التراث والتاريخ المَروي، فما الذي دفعك للسير قدماً في مشوار التوثيق؟
منذ القدم كان الإنسان يقوم بتوثيق بعضاً من تفاصيل حياته للاستفادة منها لاحقاً، ولم يكن آنذاك يعرف القراءة والكتابة، فكان يستخدم الحوار بشكل يومي، أو أسبوعي، سواء مع الأبناء، أو الأحفاد، وهي وسيلة يورث من خلالها القصص والحكايات والأحداث.
أما بالنسبة إلي فالتوثيق بالتدوين أعتبره غاية في الأهمية لحفظ أي مادة تراثية تتعلق بماضي أهالينا، والكتب التي توثق التراث والتاريخ المَروي ثرية بالمعلومات الشعبية، والجميع يبحث عنها للاستفادة بإعداد البحوث والرسائل العلمية، وغيرها. فالتوثيق ينقل الماضي إلى الحاضر، ومن ثم تتوارثه الأجيال القادمة في المستقبل، ودائماً ما أدعو كل من لديه معلومة خاصة بالماضي أن يوثقها، سواء بالتدوين، أو من خلال قناة إعلامية تتحدث عن التراث، فهو يحمل أمانة يجب عليه حفظها لمن يعيشون بعده.
ماذا يعني لك التراث الشعبي، وأكثر الهواجس التي تراودك تجاهه؟
التراث الشعبي جزء مهم من تاريخ دولتنا الحبيبة، ومن حضارتها، وهويتها الإماراتية، والتي تُعد غنيّة به، وهو ما يؤكده الكمّ الكبير من المعلومات الذي خلّفه الأجداد المتعلق بالحِرف، والملابس، والصناعات، والفنون، وغيرها. أمّا في ما يتعلق بالهواجس التي تراودني تجاهه، فهي أنني أخشى عليه من الاندثار، بخاصة أن الكبار الذين نستند إليهم في أخذ المعلومة، منهم من غيّبهم الموت، ومنهم من أهلكه المرض، ويصعب الجلوس معهم للنقل عنهم، وهو ما يجب علينا الاهتمام بطرق حفظه، وصونه من الضياع.
أصدرت في عام 2016 كتاباً بعنوان «حكايات من تراث الأجداد»، فما أبرز ما يميزه؟
حين أصدرت هذا المؤلف لم أعتمد فيه على أيّ مرجع كتابي، وإنما اعتمدت على نساء ورجال كبار في السن، يتمتعون بذاكرة قوية وعاصروا أحداثَ وحكايات زمنهم، بحلوه ومُرّه، وبخبراته وقسوته، وكان لابدّ من توثيق كل هذا، ونقله للجميع، خاصة الأجيال المقبلة، فهؤلاء الناس بالنسبة إليّ كنوز تراثية لها قيمتها المادية.
كم تطلّب من الوقت إنجازك لكتاب «مفردات قالها أهل الإمارات وقيلت في الخليج العربي»، وحجم المجهود الذي بُذل كي يرى النور؟
قبل أي شيء أنا أمّ لأربعة أبناء، سلطان ومهرة ومنال ومحمد، وكأي امرأة واعية لدورها الحقيقي أتحمّل مسؤولياتي تجاه بيتي وأسرتي، وحين بدأت الكتابة في عام 2013، كان أبنائي آنذاك كبروا، ومنهم من تزوج واستقل ببيته، وكان عندي وقت فراغ استثمرته في البحث والكتابة، ما تطلب منّي الكثير من الجهد والسفر.
وقد كنت أقسم وقتي بين الجلوس مع المهتمين بالبحر، كي أوثق معلومة، أو مفردة بحرية تراثية، وبين الجلوس مع والدي الذي ساعدني كثيراً، وكان بالنسبة إلي اليد اليمنى التي أمسكت بالقلم وكتبت ودوّنت، فقد عاصر ورجال عائلته، أمثال جدّه لأمّه، البحرَ، وكان منهم نواخذة يورثون لأبنائهم قصص أسفارهم وجولاتهم، وما يتعرضون له في البحر.
كما سافرت من أجل هذا الكتاب إلى دولة قطر، وإلى ولاية صور التي تقع في المنطقة الشرقية بسلطنة عمان، وجلست هناك مع صنّاع السفن الخشبية للتعرف إلى أنواع الخشب، ثم سافرت قبالة الساحل الشمالي لمسندم بسلطنة عمان، لزيارة جزيرة «سلامة وبناتها»، للتعرف إلى أسطورتها، كل ذلك أخذ مني عامين ونصف العام، من العمل المتواصل لإنهاء هذا الكتاب.
هل لك أن تطلعينا على الإصدارات الأخرى التي شاركت أو قمت بإعدادها وتخدم الموروث الشعبي؟
بعد إصداري الكتابين الأول والثاني، كانت لي مشاركة في إصدار كتاب «ذكريات من عبق الماضي الجميل»، مع كاتبات من مجلس أولياء أمور طلبة منطقة رأس الخيمة التعليمية، وكانت تجربة ثرية شاركت فيها بـ 8 موضوعات تراثية مختلفة، تعكس واقع حياة آبائنا وأجدادنا، ومن خلالكم أودّ أن أنوه بإصدار كتابين قريباً، أحدهما يتحدث عن الذهب التراثي القديم، أمّا الكتاب الآخر فيتحدث عن المرأة من الألف إلى الياء، من زينتها وعطورها، وغيرها.
كم عدد المفردات التي قمت بتوثيقها ودوّنتها للأجيال القادمة حتى الآن؟
دونت 488 مفردة، بعضها احتاج لشرح مفصّل وصل إلى صفحتين، وثلاث كاملة، وأحياناً أكثر من ذلك.
كيف أثرت نشأتك الساحلية في تكوينك وارتباطك بالتراث؟
ولدت ونشأت في بيت أسرتي بفريج «الميان» في رأس الخيمة، والذي كان قريب من شاطئ البحر، وكم أتذكر بعض التفاصيل الصغيرة التي أثرت فيّ كثيراً، مثل ما كانت تفعل والدتي مريم، رحمها الله، إذ كانت بعد انتهائها من تنظيف المنزل تحمل الملابس المتسخة لتغسلها في مياه البحر، ترافقها بعض نساء الفريج، ونحن كأطفال نتبعهم كي نلهو في البِرك قليلة العمق التي تتجمع فيها مياه البحر، وغيرها من الأحداث المرتبطة بهذا المكان الذي لا يزال قائماً صامداً، رغم مرور نحو قرن على بنائه، ورغم أنه لم يعد لنا ملك هناك، إلا أنني لا أزال أذهب إلى هذا الفريج، وأمشي بين أزقّته الضيقة، ولي الفخر بأنني قمت بتوثيق أول فيديو، على مستوى رأس الخيمة، يُظهر بيوته، وأسماء أصحابها الأصليين، بعد أن بيعت، أو استأجرها آخرون.
والدي معلّمي الأول والسبب في ارتباطي وتعلقي بالموروث الشعبي
استلهمت من والدك حبّ عالم الغوص والبحارة، فهل يُعد ذلك بداية ارتباطك وتعلقك بالموروث الشعبي؟
والدي بلا شك هو معلّمي الأول، والسبب في ارتباطي وتعلّقي بالموروث الشعبي، ولكن قبل ذلك، كان لذاكرتي المشحونة بالتراث الأثر في تعلّقي به، وكان لديّ الكثير من المشاركات التراثية عبر إذاعة رأس الخيمة، وكذلك أقوم بإعداد الفقرات التراثية، وقمت مؤخراً، باستغلال أحد مواقع التواصل الاجتماعي لتوعية الناس بجذورهم المتأصلة في الأرض عبر السنين، فالتراث بالنسبة إلي رافد، لابد أن نرعاه ونصونه.
يسعدك الجلوس مع الشواب وسماع أحاديثهم ومفرداتهم القديمة، فما الذي تثيره تلك الجلسات بداخلك؟
أحاديث الشواب ملهمة بالنسبة إلي، فالجلوس معهم بمثابة كنز من ذهب، أذ أقوم بتسجيل ما يقولونه كي أحتفظ بالمعلومة بشكل جيد، وحتى لا تشرد مني كلمة، أو مفردة، لحين يأتي دورها في التدوين والنشر، فهي حقاً أوقات ممتعة تعجز الكلمات عن وصفها، وعندما أغيب عنهم فترة يفتقدونني، ويسألون زوجي عني، وبمجرد رؤيتهم يزداد حنيني لجلساتهم ومشاركتهم الأحاديث المتعلقة بالماضي، فكلامهم دُرر، وكل قصة فيها عبرة وحكمة.
عندما يجذبك الحنين للماضي، ما أول شيء تقومين بفعله؟
عندما لا يكون لديّ كتابة أقوم بتوثيق الأماكن القديمة من خلال التصوير، ولي الشرف أن أكون أول شخص يوثق مناطق كثيرة في رأس الخيمة، وأقوم بعمل حوارات مع أهل هذه المناطق، وأطلب منهم أن يتحدثوا بشفافية. كما وثّقت أسماء لعائلات كثيرة كانت تأتي للاستجمام، والراحة، والاستمتاع بمزارع النخيل، والمياه الباردة، فبعض المناطق في إمارة رأس الخيمة كانت ولا تزال، واحة خضراء. كما أقضي بعضاً من وقتي في إعداد حلقات ميدانية مصورة بالتعاون مع دائرة الآثار والمتاحف برأس الخيمة، وتسجيل برنامج يحمل اسم «أماكن في الذاكرة»، يُعرض عبر «يوتيوب»، أوثّق فيه الأحداث والقصص بعد رحلة بحث وتقصٍّ للمعلومة الدقيقة.
ساعدت قوّة العلاقة مع أجدادنا في تكوين شخصيتنا التراثية
هل ترين أن هناك مسؤولية ودوراً يقع على عاتق أبناء الدولة للحفاظ على الموروث المحلي؟
يجب أن تتضافر الجهود، وتتكاتف، من أجل الحفاظ على الموروث الشعبي، فعندما كنا صغاراً كان لدينا ميزة، وهي قوة العلاقة بيننا وبين أجدادنا، وهذا ساعد على تكوين شخصيتنا التراثية، وعندما كبرنا كانت ذاكرتنا مشحونة بكل ما تعلّمناه منهم، أما الآن، فهناك بعض من أبناء الجيل الحالي يفتقر إلى كثير من تلك التفاصيل التي عشناها، ما يستلزم الانتباه لتلك المسألة، وإيجاد حلّ يسهم في زيادة شغف وحب التراث في أنفسهم، وبما يضمن حفظه وتوريثه للأجيال القادمة.
بعيداً عن عبق الماضي، هل لك اهتمامات أخرى تشغل تفكيرك؟
اهتماماتي كثيرة، ولكن أهمّها السفر إلى بلدان كان لأجدادنا فيها صولات وجولات، ولهم فيها علاقات تجارية من خلال أسفارهم، مثل زنجبار، والهند، وحين أسافر إلى تلك الأماكن أحاول أن أعيش في الماضي، لربط العلاقة بين البلدين، والتعرف إلى الأسباب التي دفعت نواخذة السفن لأن يسافروا من رأس الخيمة إلى تلك البلدان، ففي كل بلد هناك موطئ أقدام أجدادنا، ورائحة أجسامهم لا تزال عالقة بالمكان، وكم يسعدني عندما أتلقى كلمات الشكر والثناء من أبناء وأحفاد هؤلاء النواخذة الذين رحلوا عنا، ولكن لا تزال أسماؤهم باقية، وأحاول أن أبرز دورهم في تنشيط حركة التجارة قديماً.
ماذا عن أسرتك، ومن يشبهك فيها ولديه تعلّق بالتراث؟
لديّ 3 حفيدات، كلهنّ لديهنّ ميول لمعرفة كيف كانت حياة الأجداد، وأتذكر استجابتهنّ عندما طلبت، قبل 5 سنوات، أن يكنّ موديلاً لباب الحناء والتسريحات، في أحد كتبي، ومن هنا بات ارتباطهنّ بالتراث، وبالزي الشعبي كبيراً، وأتمنى أن تخلفني، ولو واحدة منهنّ، في مسيرة التراث، وتكمل مشوار التدوين.
ما الذي تطمحين إليه ويصبّ في مصلحة الموروث الثقافي؟
أطمح إلى أن ينشأ جيل واعٍ يقدّر الموروث الثقافي، ويحمل رسالته بأمانة، إلى من يخلفه، كما أطمح إلى أن يكون هناك منهج دراسي خاص بالتراث يبدأ من الصف الأول الابتدائي، ويكبر بالتدريج كلما كبر الطالب، شريطة ألا تحسب عليه درجات حتى نربط هؤلاء الطلبة بتراثهم من دون الانشغال بالمردود والعائد جرّاء الاهتمام بأصولهم، وجذورهم.
* تصوير: السيد رمضان