منذ أن ظهرت برامج «الذكاء الاصطناعي» خلال السنوات الأخيرة، ظهرت أعمالًا عملت في كافة المستويات الإبداعية على إزالة الخط الفاصل بين الإنسان والآلة.
في الكتابة الأدبيّة أُنتجت روايات تأسر خيال القرّاء، كذلك في المسرح والسينما ظهرت أعمال حقّق الكثير منها نجاحات ملحوظة، وفي الموسيقى والغناء قام الذكاء الاصطناعي بوضع ألحان لا يمكن تمييّزها عن تلك التي وضعها كبار الملحنين.
كذلك لوحات الفن التشكيلي، بعضها عرض في أكبر صالات العرض وتباع بمبالغ ضخمة، غير أن أغلب من قدّموا كل هذه الأعمال الإبداعيّة لم يشيروا من بعيد أو قريب إلى أنها صنعت بواسطة «الذكاء الاصطناعي»!
برنامج AVIA للتلحين بواسطة الذكاء الاصطناعي
بعض ممّن يؤيدّون الفكرة يؤكّدون أن «الذكاء الاصطناعي التوليدي»، يعمل كمحفز للإبداع، وهو رأي «الذكاء الصناعي نفسه»، حيث يشير إلى أنه يقدّم للفنانين والموسيقيين والكتّاب أدوات غير مسبوقة للاستكشاف والإبداع، عبر تجارب بصريّة جيّدة، بما يتجاوز تصوّرات المبدع نفسه.
فعلى سبيل المثال، تتيح أداة مثل (AIVA)، وهو الفنان الافتراضي للذكاء الاصطناعي للملحنين، تجربة أصوات وألحان جديدة، ما يتخطى حدود التأليف التقليدي، كذلك يستخدم الكتّاب الذكاء الاصطناعي لتوليد أفكار القصة والسيناريو والحوار، بل ويقوم بكتابة روايات بأكملها، واستكشاف أشكال وأنواع جديدة، ما يسمح للمبدعين بالدخول إلى مناطق أدبيّة جديدة لم يكن من الممكن تصورها في السابق.
هل للذكاء الاصطناعي حقوق ملكية؟
غير أن هذه الإبداعات غير التقليديّة دفعت من قاموا بها إلى الاعتقاد، مع الوقت، بأنها ملكاً خالصاً لهم، ما يطرح تساؤلات عديدة حول هذه المنتج، إذا ما كان عملاً إبداعيّاً خالصاً ينسب لصاحبه أم لا؟هذا الجدل حول قدرات الذكاء الاصطناعي، أوجد العديد من الأسئلة المهمّة التي يتمّ طرحها مؤخراً، ربما أهمها: هل الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في عمل إبداعي يجعله ملكاً لمن قام به؟
ربما جاءت الإجابة من خلال حكم قاضية المحكمة الجزائية بالولايات المتحدة الأمريكية، «بيريل هاول»، الذي أصدرته مؤخّراً، بأن الأعمال الفنية المولّدة بالذكاء الاصطناعي لا يمكن أن تكون محميّة بحقوق الملكيّة الفكريّة لحقوق المؤلّف، ورفضت أن تنسب حقوق التأليف لرئيس تنفيذي لإحدى شركات الشبكات العصبيّة، لصورة مولدة بالذكاء الاصطناعي.
حيث أشارت القاضية في حكمها بالرفض إلى أن العمل المولّد بالذكاء الاصطناعي غير قابل للحماية، وفقًا لقانون الملكيّة الفكريّة، وأن حقوق التأليف لم تُمنح أبدًا للعمل الذي لا يتضمّن أيّ يد بشريّة توجّهه، مضيفة إن التأليف البشري هو شرط أساسي لحقوق التأليف، وأن الإبداع البشري هو جوهر حقوق التأليف.
ورغم ذلك، أقرت القاضية بأن الإنسانيّة تقترب من آفاق جديدة في حق الإبداع، حيث قد يستخدم الفنانون الذكاء الاصطناعي كأداة لإنشاء عمل جديد، وهذا الأمر قد يوجد أسئلة صعبة بشأن مقدار المدخلات البشريّة الضروريّة للفنّ المولّد بالذكاء الاصطناعي بموجب حقوق التأليف، مع ملاحظة أن نماذج الذكاء الاصطناعي تُدرّب غالبًا على عمل موجود سابقًا!
فلا شك أنه مع استمرار تطوّر الذكاء الاصطناعي، يجب أن تتطوّر المعايير القانونيّة لضمان العدالة واحترام الملكيّة الفكريّة والاستخدام المسؤول للتقنيّة، غير أنه في الوقت نفسه يطرح تساؤلات عديدة حول تحديّات مقبلة لأشكال الفن التقليدي، خاصة أن مستقبل الإبداع سيتشكّل من خلال قدرتنا على التكيف والابتكار ودمج تقنيّات الذكاء الاصطناعي بشكل احترافي.
قد يفتح آفاقاً فنيّة جديدة لا محدودة، مثلما قال المخرج والمؤلف والمنتج الكندي جميس كاميرون، مخرج فيلم «آفاتار»، في أحد حواراته الصحفيّة «يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة قويّة للمخرجين في تحقيق رؤيتهم الإبداعيّة، فهو يفتح أمامنا أبوابًا جديدة للتعبير الفنيّ وإيجاد تأثيرات بصريّة لا تُصدّق».
أما المخرج السويسري بيتر لويزين فقرّر أن يخوض التجربة بالفعل، معلناً أنه قام بتحويل نص من تأليف الذكاء الاصطناعي إلى فيلم يضمّ ممثّلين حقيقيّين، وكانت المفاجأة أنه تمّ رفض عرض فيلمه في سينما بلندن.
وقوبلت الدعاية التي تروّج للفيلم بالكثير من الانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي، فكان ردّ لويزي على ذلك، بأنه كان يهدف إلى إثارة الجدل حول ما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي مستقبلاً، وإذا ما كان سيؤثّر على السينما سلباً أم إيجاباً.
عبد العزيز مخيون بالذكاء الاصطناعي في مسلسل «المعلم»
الذكاء الاصطناعي في الأعمال الفنية العربية
في الدراما المصرية، كان الاستخدام في إطار مختلف وبشكل محدود، حيث استخدمه صنّاع مسلسل «المعلم»، في رمضان الماضي، حيث تم استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي «De aging» في الحلقة الأولى، فظهر كل من النجمين الكبيرين عبد العزيز مخيون وأحمد فؤاد سليم في مرحلة الشباب.
وهو ما حدث في مسلسل «حق عرب» في الموسم نفسه، فبدا كلّ من رياض الخولي وسلوى عثمان وأحمد صيام، أصغر سنّاً خلال أحداث الحلقة الأولى، وهذا الأمر تعتبره النّاقدة الفنيّة ماجدة خير الله، حلاً لكثير من المشكلات في الصناعة الدراميّة، شرط استخدامه بشكل صحيح، أما السيناريست محمود حمدان مؤلّف مسلسل «حق عرب».
فيؤكّد أن العالم يشهد ثورة غير مسبوقة في مجال الذكاء الاصطناعي، ولا شكّ أن هذه الثورة ستمتدّ إلى صناعة الدراما، ومؤخراً لجأ بعض المخرجين إليه في أعمالهم الدراميّة لتصوير مَشاهد في أماكن يصعب الوصول إليها، أو إدراج عناصر دراميّة غير متوافرة بسهولة، مشدّداً على أن استخدامه في الأعمال المصريّة، قاصر حتى الآن على التقنيّات البصريّة والصورة.
رياض الخولي شاباً بالذكاء الاصطناعي في مسلسل «حق عرب»
هذا الكلام يتنافى مع ما أعلنه المخرج المصري خالد مهران مؤخّراً، عن انتهاء التحضيرات لورشة العمل الفنيّة لكتابة فيلم سينمائي بمشاركة تقنيّات الذكاء الصناعي؛ لإنتاج أول فيلم سينمائي عربي يعتمد على مشاركة تقنيّات الذكاء الصناعي في عملية الإنتاج بالكامل وفي كل مراحل الفيلم المختلفة، بدءًا من كتابة القصة والسيناريو، وصولًا إلى التصوير وتطبيق المؤثرات البصريّة حتى مرحلة التسويق ما بعد الإنتاج وتوقّع الإيرادات!
إلى جانب ذلك، وبعد النجاح الذي حقّقه المطرب يوكي من خلال خوض تجربة الذكاء الاصطناعي في كليبه الأخير «حياتي ديما»، كأول كليب في الوطن العربي يعتمد على استخدام الذكاء الاصطناعي في كل مشاهده، طرح المطرب محمد حماقي كليب جديد بعنوان «حبيت المقابلة» مستخدماً أيضاً تقنية الذكاء الاصطناعي!
ربما سيشمل التأثير الإيجابي جوانب فنيّة عديدة، لكن حتماً سيكون له تأثير سلبي، وهو ما يؤكّده النجم الفنان محمد صبحي قائلاً: «الذكاء الاصطناعي قد يزيّف الواقع، لأنه لا يظهر مشاعر أو حقائق، لأن فكرته كارثة ستظلم غالبيّة دول العالم، ويستثنى من ذلك الدول الكبرى التي صنعته.
وسيظلّ الإبداع البشري هو الأهم والأبقى؛ لأنه مهما بلغت تطوّرات الذكاء الاصطناعي، سيظلّ الجانب الإبداعي البشري للمبدعين الحقيقيين هو الأهمّ والأكثر تطوراً، لكن من الممكن استخدامه في تسهيل الصناعة الفنيّة، من تقنيّات وأدوات، لتقديم صورة أفضل».
يؤكّد ذلك دكتور سامح مهران، الكاتب وأستاذ النقد الفني والرئيس الأسبق لأكاديميّة الفنون، ورئيس المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبيّة سابقاً، مشيراً إلى أن الذكاء الاصطناعي سيحوّل البشر في المستقبل إلى مجرد رقم، خاصة أنه يعضّد نظريّة «الجهد الأقل»، ويلغي فكرة القدرة وتحفيز الإبداع.
ويضيف «عندما يكون هناك كثافة سكانيّة، من الطبيعي أن التطوير يخدم ذلك، وليس العكس، وبالتالي لا بدّ من التعامل مع التكنولوجيا بحساب، بحيث يمكن الاستفادة منها في البحث العملي والتطوّر التكنولوجي، وليس في التحايل لتقديم أعمال «فنيّة سابقة التجهيز»، لأن ذلك سيخلق بعد قليل تشابهاً كبيراً في الأفكار والأعمال المقدّمة، لأن من قام بتغذية الذكاء الاصطناعي بهذه الأفكار، بشر أيضاً، وهو أمر خطير جداً».
من جانبه يتساءل الناقد محمد الروبي، رئيس تحرير جريدة مسرحنا، «هل الذكاء الاصطناعي نعمة أم نقمة؟» بات السؤال يستحقّ التأمّل، وكما كل جديد انقسمت الآراء بين أنه «نعمة» أو «نقمة».
لكن أيّاً ما كان الاختيار فالأمر المسلّم به هو أنه لا سبيل للإنكار أو التجاهل، فكما تقول القاعدة «إن الأشياء حين تبدأ تستمرّ»، وهو ما يعني أن على إنسان العصر الحديث أن يفكّر كيف سيتعامل مع ذلك الجديد.
لم يعد خفيّاً أن الذكاء الاصطناعي سيكون مؤثّراً في مسيرة الإبداع بكافة أنواعه، فأنت الآن يكفيك أن تطرح على برنامج تحمله على تليفونك فكرة نص مسرحي أو سيناريو فيلم، ليهديك النص، بل ومدعوماً ببدائل تختار منها ما شئت، حتى أنه يمكنك أن تطلب منه تصوّراً إخراجيّاً؛ له فيهديك إياه بالحركة والإضاءة والديكور والموسيقى والملابس، كذلك يمكنك أن تطلب منه حتى لوحة تشكيليّة متكاملة بألوانها!
هل سيقضي الذكاء الاصطناعي على الإبداع؟
ويضيف الروبي «إذن إلى أين سيذهب المبدع الإنسان؟ وإلى أي مدى ستختلط الأفكار والتصوّرات، وبأيّ مسطرة قياس سيحكم النقد الحديث على إبداع يختلط فيه الإنساني بالاصطناعي؟ الأسئلة كثيرة ومحيّرة، ولا يمكن الهروب منها، وبات الأمر خطراً للدرجة التي تتطلّب اتفاقاً عالميّاً جديداً يحدّد حدود التعاون ويفرض قيوداً تحفظ ملكيّة فكريّة هي -بالفعل- منتهكة في وضعها الحالي.
ولا شكّ أن الاعتماد الزائد على الأدوات الذكيّة قد يؤدّي إلى تقليل المهارات اليدويّة والفكريّة للمبدعين، كذلك قد يصل الأمر إلى تشابه الإبداعات، حيث تعتمد على نفس الآليّة ومن ثمّ نفس النماذج، في مقابل ذلك ومن إيجابيّات هذه الظاهرة، أنّه يمكن للذكاء الاصطناعي توفير أدوات جديدة تسهّل على المبدعين إنتاج أعمالهم، كذلك يمكن للذكاء الاصطناعي أن يجعل عملية الإبداع أسهل وأيسر وأسرع.
وهكذا يمكن أن نرى أن الذكاء الاصطناعي، ككل اختراع جديد، يمكن أن يكون كما السكين الذي قد تستخدمه في قتل إنسان، أو في تقطيع قالب حلوى توزّعه على أحبابك، الأمر مرهون إذن بقدرة الإنسان العالمي في الانتباه مبكّراً لخطورة ذلك الجديد والاتفاق كما قلت على قوانين تنظّم عمل هذا الوافد الجديد».
من جانبه، يرى المخرج السينمائي أحمد رشوان أنه «مهما حدث من تطوّر علميّ، وبلغت درجة ما يقدّمه الذكاء الاصطناعي ، فإن ذلك لن يلغي الإبداع البشري، لكن من الممكن أن يقوم البعض باستغلال الذكاء الاصطناعي في أمور عديدة يمكن أن تفيد السينما، ربما أهمها الجرافيك، ويسهل الكثير في استخدامه في هذا الإطار.
وقد شاهدنا مؤخراً تجارب في هذا الاتجاه حقّقت نجاحات كبيرة، لكن بالتأكيد أنا ضد الاستسهال واستخدام مثل هذه البرامج لتقديم أعمال من إبداع الكمبيوتر ووضع أسماء أشخاص عليها، حتى لا نكرّر موضوع «الاقتباس»، وهو لفظ مهذّب عمّا كان يحدث، حيث شهد هذا الموضوع مهازل كبيرة جدّاً، وتقديم أعمال مقتبسة أو «مسروقة» من أعمال أخرى، وقدّمها من قاموا بالاقتباس على أنها من إبداعهم الخاص!».
ويضيف رشوان: «في مقابل ذلك، لا شك أن هذه النوعيّة من البرامج يمكن أن تفتح الباب أمام بعض المدّعين أو غير المبدعين لتحقيق ذاتهم من خلاله، كنوع من استسهال الإبداع، وبالتأكيد مع أن هذه النوعيّة من الأعمال لا تخضع لحقوق الملكيّة الفكريّة، في الوقت الذي لابد أن نحمي فيه المبدعين الحقيقيين، بتشديد وتفعيل قوانين حقوق الملكيّة الفكريّة».
اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي "رفيق" جديد في تربية الأبناء
إعداد: أحمد إبراهيم