علاقة الأم بأطفالها من أكثر الأمور تعقيداً، فهي مطالبة بأن تكون نبع العطاء والحنان، وفي الوقت نفسه صاحبة الشخصية القوية التي تستطيع أن تربي وتعلم وتخرج للمجتمع إنساناً ناضجاً.
فالتربية من أكبر التحديات التي يمكن أن تواجهها الأم في حياتها، ورغم صعوبة المهمة ومشقتها إلا أنها مهمة نبيلة وضرورية لاستمرار الحياة والأجيال القوية التي تسلم الراية لبعضها.
كل أم تود أن تبني علاقة جيدة وقوية مع طفلها منذ نعومة أظافره وتسعى إلى أن تكون صديقة لأولادها وكاتمة أسرارهم خاصة عندما تطأ أقدامهم مرحلة المراهقة، ولكن كثيراً من الأمهات لا يعرفن من أين يبدأن، خاصة في ظل التغيرات الكثيرة التي تطرأ على حياتها وحياة أولادها.
طرحت «كل الأسرة» عدداً من التساؤلات حول صداقة الأم وأولادها على عدد من خبراء الطب النفسي وأساتذة التربية والعلاقات الأسرية وسألتهم:
كيف تنجح الأم في كسب صداقة أولادها بحيث تكون الأم والصديقة معاً؟ وكيف تتعامل الأم مع تقلبات فترة المراهقة لدى أولادها؟ وكيف يواجه الآباء والأمهات مظاهر التمرد والجحود في بداية ظهورها على الأبناء؟
الصداقة بين الأم وأولادها هي المفتاح السحري للسعادة الأسرية
في البداية، تؤكد الدكتورة منى أحمد البصيلي، استشاري الطب النفسي وتعديل السلوك والإرشاد الأسري في القاهرة، أهمية الصداقة بين الأم وأولادها وتعتبرها المفتاح السحري للسعادة الأسرية وضمان العلاقة المستقرة والناجحة في كل الأوقات خاصة في فترة المراهقة.
وتقول «الصداقة من أجمل العلاقات الإنسانية التي تضفي نوعاً من الاطمئنان والتوافق والسعادة، ورغم أن المهمة شاقة ومسؤوليات الأم جسيمة إلا أن الأمر يحتاج إلى صبر ومرونة وحكمة بالغة. لذلك على الأم التروي وإعداد نفسها جيداً لتحقيق هدفها بتكوين صداقة مع أولادها بالتثقيف والمعرفة واستشارة المختصين حتى تضع يدها على مفاتيح التعامل مع الأبناء خاصة في فترة المراهقة. والأهم هنا أن تحرص الأم على التواصل الدائم مع أولادها وأن تتحدث معهم عن يومها وعن صديقاتها وأن تبدأ هي برواية كل ما حدث لها في اليوم حتى يتعود الأبناء هم أيضاً أن يرووا لأمهم ما يحدث لهم في المدرسة والنادي ليكون ذلك عادة بينهم»
على الأم أن تسعى جاهدة لأن تكون هي الصديقة الأهم والأقرب إلى قلب أولادها خاصة في المراحل الأولى من حياتهم وحتى يتجاوزوا معاً فترة المراهقة بلا خسائر
وتنصح الاستشارية الأسرية الأمهات بضرورة اتباع منهج وسطي في التربية يعتمد على تعزيز ثقة الطفل في ذاته منذ نعومة أظافره دون تهويل أو تهوين، وتلفت إلى أهمية مدح الطفل ومكافأته في حال قيامه بتصرف إيجابي تجاه الآخرين لأن شعور الطفل بأنه مهمل من قبل المحيطين به يدفعه إلى التقوقع على نفسه.
وتشدد الدكتورة مني البصيلي على أن صداقة الأم بأولادها مطلب ضروري ومهم لتخريج جيل سوي من الأبناء خاصة أننا نعيش في عصر مغريات العزلة والتشتت الأسري والتي أصبحت كثيرة جداً، لذلك فالأمر يحتاج إلى مزيد من الجهد والصبر من قبل الأم وتسعى جاهدة لأن تكون هي الصديقة الأهم والأقرب إلى قلب أولادها خاصة في المراحل الأولى من حياتهم وحتى يتجاوزوا معاً فترة المراهقة بلا خسائر فهذا يضمن لهم أن تظل علاقتهم راسخة للأبد.
وتلفت الدكتورة البصيلي المرأة العاملة إلى أنه لا ينبغي أن يكون عمل المرأة على حساب أبنائها وتربيتهم، فيترتب على عملها إهمال الأبناء أو تركهم للخادمات وحرمانهم من حنان الأمومة ومن تربية الأم ومراقبتها وتوجيهها.
الأم العاملة وتربية الأبناء
أما الدكتور جمال شفيق أحمد، أستاذ علم النفس الإكلينيكي ورئيس قسم الدراسات النفسية للأطفال بمعهد الدراسات العليا للطفولة جامعة عين شمس، فيرى أنه في كل الأحوال تبقى علاقة الأم بأولادها علاقة معقدة ومتشابكة لكن لا بديل عنها.
ويوضح «الزوجة الذكية العاقلة تستطيع أن توازن بين عملها وبيتها بمنتهى السهولة ولكن الأمر يحتاج منها لبعض المجهود. فأكبر خطأ قد تقع فيه الأم في بداية علاقتها بأولادها أن تنشغل عنهم بأمورها الخاصة وعملها وحياتها الاجتماعية وتهمل الاهتمام بشؤون صغارها أو تعتبرها أموراً بسيطة لا داعي لتناولها. كما أن شخصية الأم أحياناً تكون أنانية فتركز على احتياجاتها فقط وتنسى احتياجات أبنائها. وفي بعض الأحيان يكون ذلك ناتجاً عن تربية الأم نفسها عندما تتعرض للقسوة والصرامة في الصغر وتكون علاقتها بأمها غير سوية فلا تدرك كيفية التعامل السليم مع أولادها».
على الأم كسب صداقة أولادها لأن الـ«يوتيوب» والألعاب الإلكترونية ومواقع الـ«سوشيال ميديا» أمور تؤدي جميعها إلى انعزال الأبناء وتقلل من تفاعلهم الاجتماعي
ويضيف «نتائج الدراسات التي تحدثت عن ذلك واقعية فعندما تكون الأم حريصة على بناء علاقة صداقة مع أولادها سينعكس ذلك على استقرارهم الاجتماعي والنفسي، والاستقرار النفسي والاجتماعي سيقود إلى استقرار دراسي ووظيفي، هذا أمر لا خلاف عليه».
ويلفت الدكتور جمال شفيق إلى أن مهمة الأم هذه الأيام في كسب صداقة أولادها لأن الـ«يوتيوب» والألعاب الإلكترونية بوجه عام ومواقع الـ«سوشيال ميديا» أمور تؤدي جميعها إلى انعزال الأبناء وتقلل من تفاعلهم الاجتماعي وتتسبب أيضاً في تدهور علاقات الشخص مع من حوله وظهور أعراض القلق والاضطراب والتأخر الدراسي.
توخي الحكمة والحذر في التعامل مع السلوكيات السلبية للأبناء
من جهتها تشدد الدكتورة هالة حماد، استشاري الطب النفسي للأطفال والمراهقين والعلاقات الأسرية، على أن أهم ما تقدمه الأم لأبنائها هو أن تكون صديقة لهم قريبة من الجميع، فأولادنا لن يتذكروا الطعام غالي الثمن الذي نملأ به بيوتنا وكذلك صراعاتنا المادية والحياتية لكي يبقوا في مستوى أفضل، كما أنهم لن يتذكروا الأقساط التي تثقل الأب والأم من أجل توفير احتياجات أولادهم، والسهر والوقت والمجهود المبذول لكي نسدد مصاريفهم، ولكن سيخلد في ذاكرتهم كم كنا أصدقاء معهم وكم مرة حدثت لهم مواقف مؤلمة وكانت أحضاننا هي الملاذ الآمن لهم في كل شكواهم، وكم تعاطفنا معهم في كل مواقفهم المؤلمة».
وتؤكد «القرب من الأبناء وبناء علاقات ودودة معهم وأن نصبح أصدقاء لهم لا يعني أننا أبداً نفقد هيبتنا وشخصيتنا القوية معهم، لكننا فقط نحتاج إلى ضبط الأعصاب في تربية الأبناء، فهذا لا يعني أبداً أن الصداقة معهم ستقودنا إلا تجاهل أخطائهم، وإنما توخي الحكمة والحذر في التعامل مع السلوكيات السلبية».
وتحذر استشارية التربية الأمهات من استخدام أسلوب التهديد على كل صغيرة وكبيرة، وهو للأسف من أكثر وسائل العقاب كسلاً وسهولة، حيث تقوم الأم بتهديد ابنها بحرمانه من المصروف ومن الهاتف ومن زيارة الأقارب ومن الخروج ومن كل ما يحبه إذا صدر منه أي خطأ حتى ولو بسيطاً مما يضر بالثقة والترابط بين الأم وأطفالها، فبدلاً من أن تقول له إن هذا السلوك غير مقبول تعتمد على مضايقته وتعنيفه بشكل مؤذ له نفسياً. فالصداقة مع الأبناء تحقق أفضل النتائج في الإقناع والتربية.
كيف تدرب الأم نفسها وتتعلم فن التعامل مع أولادها؟
ويتفق معها الدكتور وليد عثمان، أستاذ التربية بجامعة قناة السويس، في أن الغربة بين الأم وأولادها وابتعادهم عنها يعتبر من أكثر المشاكل المؤلمة التي قد تواجهها أي أم خلال مشوار أمومتها سواء صرح الأبناء بذلك أو ظهرت مشاعرهم الدفينة في سلوكياتهم تجاه الأم. فهذه الأزمة تمر قاسية جدا على كل أم، وهنا قد تقف وتراجع نفسها وتبحث عن الأخطاء التي ارتكبتها في تربية أبنائها وتعمل على إصلاحها، وقد تمر باكتئاب بسبب ندمها وإحساسها بالذنب وجلد الذات على فشلها في تربية أولادها واكتساب محبتهم وقربهم.
ويتساءل «ما المانع أن تدرب الأم نفسها وتتعلم فن التعامل مع أولادها والتعود على أن تكون صديقة لهم حتى ولو كانوا أطفالاً، وتدرب نفسها على التحدث معهم بلباقة وكأنهم غرباء فيشعرون وهم يتحدثون معها بالألفة وعدم التعالي حتى يقبلوا على الإنصات لها».
أطالب الأم بالحرص على اللعب مع أطفالها بصفة منتظمة للتخلص من نوبات التوتر التي تتعرض لها بفعل عبء المسؤولية
ويضيف «حدوث فجوة وصمت بين الأم وأولادها ضار جداً بصحة الطفل، والآثار السلبية الناتجة عن ذلك يمكن أن تظل مع الأطفال إلى سن البلوغ، لذلك كثيراً ما أطالب الأم بالحرص على اللعب مع أطفالها بصفة منتظمة فذلك سيساعدها على التخلص من نوبات التوتر التي تتعرض لها بفعل عبء المسؤولية الملقاة على عاتقها».
كما يطالب د وليد عثمان الأمهات جميعاً ألا ينسوا الابتسامة في وجه الطفل فابتسامتك تعني له الكثير «دائماً ما أطالب الأمهات بحضن أولادهم وتقبيلهم وأن يقولوا لهم إنهم يحبونهم كل يوم، فمهما كثر ذلك هم في احتياج له دون اعتبار لسنهم صغاراً كانوا أو بالغين أو حتى متزوجين ولديك منهم أحفاد. ودائما ما أوجه رسائل يومية للأمهات بأن طفلك ليس له أي ذنب أن يتحمل نتائج يومكِ السيئ.. أو مشاكلك الشخصية أو مشاكلك مع الأب أو في العمل أو في الشارع، وأن تحاول أن تستمد طاقتها الإيجابية من ابتسامة طفلها في الصباح، وحاجته إلى حنانها في المساء، وأن تحاول المزاح مع طفلها وتتحمل أخطاءه الساذجة فهي غالباً غير متعمدة».