اعتدنا مع بداية كل سنة أن يطلع علينا خبراء الصحة بتعليمات تحسن الجسد والمزاج، وهي تعليمات ونصائح زادت أهميتها بسبب معاناة البشرية كلها من داء سرى سريان النار في الهشيم وقلب عاداتنا اليومية رأساً على عقب.
إن الخبراء الفرنسيين يحثون الرجال والنساء على ضرورة التخلي عن الواقعية الصارمة ومحاولة ارتياد أرض الأحلام. إنهم يوصون بتخصيص أوقات محددة لممارسة التأمل، كما ينصحون بعادات غذائية جديدة تهتم بشكل خاص بفوائد الأعشاب العطرية التي لابد من زراعتها في كل بيت، ولو داخل العلب والأوعية في نافذة المطبخ.
كثيراً ما سمعنا أمهات يرفعن الصوت بالشكوى «ابني لا يفهم الواقع» أو «ابنتي مراهقة حالمة». ترى ماذا ستكون ردة فعل هؤلاء الأمهات حين يقرأن هذا التحقيق؟ ففي دراسة ظهرت في باريس، قبل أيام، وردت آراء لأطباء ومعالجين اجتماعيين يؤكدون فيها أن الأشخاص الحالمين يعيشون حياة أكثر يسراً من الواقعيين. وهناك في الدراسة نصائح يمكنها أن تساعد من يلتزم بها على أن يواجه 2021 بروح إيجابية. هل هو كلام خفيف لا يجوز الاعتماد عليه، أم هو يستند إلى حقائق علمية؟
تأمل وكن هادئًا
من هؤلاء الذين يوصون بالعيش مثل الطير، يحلّق فوق الرؤوس والتفاصيل المقلقة، خبيرة نفسية تدعى جان سيوفاشن، وكذلك صوفي ترم التي لها جمهور كبير من المتابعين عبر وسائل التواصل. إنهما تحرضان على شيء من الخفة، أو لنقل تناول المشكلات بطبع هادئ بارد نظراً لأن القلق وزيادة التوتر والتفكير لن يساعدا في حلها. فالسنة الماضية كانت مثقلة بالخوف والترقب ومتابعة أخبار الفيروس الذي اجتاح العالم، لذلك فإن مواجهة السنة الجديدة لن تكون سهلة لأنها تأتي امتداداً لما فات، لاسيما مع انتشار الوباء وظهور تفريعات جديدة منه وتعدد الآراء حول اللقاحات.
أسست الخبيرة النفسية جان سيوفاشن مركزاً لعلم النفس التكاملي، وهي تقوم بإعطاء دروس في التأمل. وطوال فترات الحجر الصحي كانت لها حصص في مواقيت محددة على مواقع التواصل، تتبادل من خلالها الحوار مع الأشخاص القلقين والمأزومين وترعى ما يشبه الممارسة الجماعية للتأمل.
وقد اجتذبت تلك الحصص آلاف المتابعين. ونظراً للإقبال عليها قامت بإصدار كتاب جديد بعنوان: «ربيع لك»، يحتوي على 55 نصيحة مع 55 صورة، تساعد في مجملها على الاسترخاء وتهدئة النفس واستنفار الخيال للهروب من الواقع المقلق. وقد تقولون إن الهروب ليس حلاً. وهذا صحيح، لكنه يبقى أفضل من التوتر المستمر إزاء واقع لا نملك له تغييراً.
الخبيرة النفسية جان سيوفاشن توقع كتابها «ربيع لك»
ابتعد عن التوتر والقلق
في كتابها، تشرح المؤلفة كيف يؤثر التوتر على صحتنا الجسمانية. إنه يتسبب في إفراز هرمون «الكورتيزول» الذي يهاجم نظام المناعة في الجسم، وهذا يتسبب في شعور حقيقي بالاختناق تحت طائلة المخاوف والتوقعات السلبية، في حين أن «الحياة الحقيقية» ستعود إلى مجراها الطبيعي بالنسبة للغالبية منا.
إن القلق يشبه ندف الثلج في الأيام الباردة، يكفي أن تلامس ذرة الثلج الأرض حتى تذوب. والبشر مثل تلك الذرات، يحتاجون للاستقرار لكي ينجلي الضباب من حولهم ويستعيدون صفاء الرؤية. لذلك، يكون من الضروري إيجاد منطقة داخلية تكون قاعدة للانطلاق نحو الخيال، وهي الصفة المهمة التي لابد من تطويرها في أوقات الأزمات. فلمحاربة القلق، نتمسك بمعتقداتنا ويقيننا. والتحدي الأكبر هو أن نتخذ خطوة جانبية موازية لمحاربة التكلس النفسي. وكلما كنت أكثر مرونة ومطواعية في رأسك، كنت أكثر توازناً. مثل السنبلة التي تتحرك مع الريح لكنها لا تقتلع من أرضها.
من نصائح الكتاب: «كل ليلة، قبل الذهاب إلى الفراش، قم بتقييم ما حققته خلال النهار. ضع قائمة بثلاثة أمور، حتى لو كانت بسيطة، من تلك التي ترضيك وتجعلك سعيداً. قد يبدو هذا نوعاً من البلاهة، لكنه يغذي نظام المكافأة الفيزيولوجية العصبية ويحفز جميع هرمونات الرضا والإحساس بالأمان، مثل "الدوبامين والأوكسيتوسين والسيروتونين والإندورفين".
نمي خيالك
وماذا عن تمارين التخيّل؟ كيف ننمي ملكة الخيال في أذهاننا؟ تجيب المؤلفة إن هذه التمارين فعالة جداً ضد الجفاف النفسي، لأنها تسمح بترك العقل في وضع هلامي وتكسر آليته السامة. إن من المفيد للمرء أن يترك نفسه للأحلام وأن يتخيل المواقف المثالية التي تسعده حتى لو علم أنه يعيش واقعاً غير مثالي ولا يشبه ما يتمنى ويشتهي.
ويوصي الكتاب بممارسة لعبة: «ماذا لو...»، أي ابتكار سيناريوهات خرافية يكون فيها كل شيء ممكناً. لا بأس من العودة إلى براءة الطفولة وأحلام المراهقة. فالمنامات الليلية تعيد ترتيب مرونة أدمغتنا وتخلط الأوراق.
المفاتيح الخمسة للنظر إلى الدنيا بتفاؤل
«لقد دقّت ساعة الحالمين. وسيكون أداؤهم أفضل من الأشخاص العمليين». هذا هو الشعار الذي تتمسك به الخبيرة النفسية الفرنسية. أما زميلتها صوفي ترم، فإنها تحب أن تقدم نفسها على أنها «باحثة في العيشة الطيبة»، وهي ليست مجرد كلمات بل تتطلب منهاجاً كاملاً. والحقيقة أن من يتابع صفحات صوفي على مواقع التواصل يجد نفسه أمام شابة ثلاثينية مرحة من أصل آسيوي، لها ولدان ومدونة باللغة الانجليزية عنوانها «الفن الآخر للعيش»، تخلط فيها ما بين النصائح النفسية ودروس التجميل ووصفات الطعام وأنماط العيش. وكانت صوفي قد أطلقت قبل 4 سنوات حصصاً تفاعلية على الشبكة الإلكترونية باسم «صفوف المزاج المعتدل»، وهي من نوع حصص الطاقة الإيجابية التي راجت وانتشرت مثل الفطر في السنوات الأخيرة. وبلغ من نجاح صوفي أن مؤسسات كبرى، مثل دائرة السكك الحديد أو مصلحة البريد الفرنسي أو حتى دار «شانيل» للأزياء، تعاملت معها لبث الحيوية في إعلاناتها ويوميات منتسبيها. لكن تلك الحصص لم تقتصر على المؤسسات الشهيرة بل يمكن لأي كان أن يسجل نفسه فيها.
حساب صوفي ترم على انستغرام
تراهن صوفي على أنها ستعيد الابتسامة لفرنسا. ومن أجل ذلك فإنها تتطوع بإرشاد متابعيها إلى المفاتيح الخمسة للنظر إلى الدنيا بعوينات وردية:
- وضعية الجسم
- التنفس
- اللحظة الحالية
- التفكير الإيجابي
- القبول
أولاً: وضعية الجسم
إنها ترى أن اعتدال الجلسة ينشئ صلة بين الجسد والفكر ويساهم في إيصال الأوكسجين إلى كافة الأعضاء، إنه لا يؤثر فقط في كيفية إدراك الآخرين لك وإنما على كيفية رؤيتك للعالم أيضاً. وهي تنصح من يتابعها: «فكّر قدر الإمكان في خفض كتفيك ورفع رأسك لأعلى وباستقامة ظهرك. إن الجسم يمتلك ذاكرة ويسجل جميع المعلومات التي يرسلها الدماغ. وشيئاً فشيئاً، ستصبح هذه الوضعية الجديدة طبيعية ودائمة عند الجلوس وحتى عند المشي».
ثانيًا: التنفس
التنفس الديناميكي والسريع من خلال الأنف يدفئ الجسم ويحفز جهاز المناعة، وهي ممارسة فعالة للغاية وقد تحتاج إلى القليل من التدريب. ولتحقيق ذلك، يمكن الجلوس القرفصاء والجسم مستقيم، مع غلق الفم، ثم البدء بأخذ شهيق طويل وتقليص عضلات البطن، أي شفطها إلى أقصى حد ممكن ثم إطلاق الزفير ببطء وبقوة من الأنف. ومن المفيد تكرار العملية لنحو عشر مرات مع تسريع الوتيرة في المرات الأولى ثم تبطئ تدريجياً. والهدف مزامنة الشهيق مع انقباض البطن والزفير مع إرخائه.
بمجرد أن تتقن مجموعة الحركات هذه، يمكن إضافة حركة الذراع، وذلك بمد كلا الذراعين إلى الأعلى وترك أصابع الكف مفتوحة. ومع كل زفير وانقباض في البطن يتم تقرِيب الذراعين من الجسم وضم الكف كما لو كنت تسحب شيئاً بقبضتين مغلقتين. إن هذه الحركات تجعلك تشعر كما لو كنت تستمد الطاقة من الفضاء وتخزنها في قلبك. وهي حركات تشبه «اليوغا» لكن صوفي تؤكد أن كل أنواع الحركة ومختلف الرياضات مفيدة لأنها تمد صاحبها بالطاقة وترفع عنه التوتر.
وطبعاً تنصح بشرب الكثير من الماء، وهي تبدأ نهارها بقدح كبير مضاف إليه عصير نصف ليمونة وملعقة عسل مطعم بالزنجبيل. وخلال النهار تحتسي أنواعاً من الشاي والأعشاب، حسب الذوق. إن الأعشاب الخضراء المضافة إلى السلطة أو إلى الطبخات، أو حتى المغلية منها، تعمل مثل مصفاة للجسم من السموم. والنتيجة تظهر بعد المداومة عليها لمدة لا تقل عن شهرين.
ثالثاً: عش اللحظة
من نصائح صوفي، الأساسية، هي أن تحدد لنفسك أهدافاً ومشاريع للسفر أو العمل أو المطالعات. وحتى عندما يكون التنقل بين الدول متعذراً بسبب الفيروس فإن مجرد الفرجة على صور المنتجعات الجميلة والجبال والغابات والبحيرات ينعش القلب ويبعث الأمل في غد أجمل.
وهي تقول «لا تؤجل متعة اليوم إلى الغد». والمتعة قد تجدها في مشاهدة فيلم أو استنشاق عطر تحبه أو مهاتفة إنسان عزيز أو مجرد الجلوس لصق الوالدة وتقبيل كفها.
رابعًا: التفكير الإيجابي
تسببت الجائحة في عودة كثيرين إلى الروحانيات والتسليم بحكم القدر. وكثرت كتب التأمل والأدعية والبرامج المنتشرة على «النت» والتي ترشد الراغبين في هذا النوع من الرياضة الروحية. وإذا كانت الأسطوانات والتسجيلات الباعثة على الهدوء وصفاء النفس معروفة من قبل، فإنها تضاعفت اليوم ولم تعد تقتصر على صوت خرير الماء وترجيعات الأمواج وحركة الريح وأوراق الشجر. فقد ظهر موسيقيون تخصصوا في المقطوعات وفي استخدام آلات للعزف ذات أصوات تبعث على السكينة والسلام.
خامسًا: القبول
الحقيقة هي أن المرء لا يحتاج للكثير من وجع الرأس لكي يهدئ من قلقه. يكفي الاستلقاء في حجرة خافتة الضوء مع موسيقى هادئة ومحاولة السفر بعيداً عن ضوضاء الشارع وتفريغ المخ من المشكلات الملحة.
العودة لطب الأعشاب
لم يحدث أن شاعت بين الناس عادة الاهتمام بالطبخ كما حدث خلال سنة «كورونا». فمع إغلاق المطاعم والمقاهي واعتكاف الناس في البيوت، كان الطبخ هو إحدى التسالي اللذيذة. وقد وجد الكثيرون في الحجر المنزلي فرصة لترتيب المخزن وتنظيم المكتبة والتخلص من الكراكيب، وكلها أعمال مفيدة تشغل صاحبها وتشحذ ذكرياته، لاسيما عند العودة لمجلدات الصور العائلية القديمة وثياب مناسبات سعيدة ماضية. وفي الوقت نفسه وجد كثيرون ضالتهم في الاعتناء بحديقة البيت أو نباتات الشرفة. ومن خلال برامج التلفزيون اكتشف هؤلاء فوائد عدد من النباتات العشبية، وعادت للظهور علاجات الجدات والطب الشعبي كنوع من الوقاية من العدوى.
في مطعمه المسمى «بوتانيك» يحضر الشيف الياباني سوجيو ياماجوتشي المرطبات و«الآيس كريم» بالسيقان العطرية، وفطيرة «المادلين» بالأعشاب الطازجة، و الكعكات بأنواع من الجيلي. وفي دور العطور المصنعة وفق أهواء الزبائن، باتت الأنوف تقيم خلطات جديدة من صلصة الزعتر أو نبات القراص والهندباء.
وهناك عشرات الوصفات المنزلية للحفاظ على طراوة البشرة وشد الوجه وتنعيم المرفقين وكعبي القدمين. وفي المقدمة تقف أزهار الخزامى «اللافندر» في المقدمة، ومعها إكليل الجبل والنعناع والريحان والليمون، وكلها روائح تصطف بفخر في زجاجات تشبه محتويات الصيدليات القديمة. أما أنواع شايات الأعشاب فإنها تخوض منافسة غير مسبوقة في الابتكار والدلال. نعم الدلال لأنها صارت مرغوبة مثل مشروبات الفراديس، وبعضها يباع بأسعار خيالية.