8 أكتوبر 2023

حكاية الطفل (أ. ش) مع "إيواء".. الأمل والرسم ينتصران على المعاناة

محررة في مجلة كل الأسرة

محررة في مجلة كل الأسرة

حكاية الطفل (أ. ش) مع "إيواء".. الأمل والرسم ينتصران على المعاناة

لا يمكن للطفولة أن تنزوي وحيدة من دون رعاية، ولا يمكن لقلب طفل لم يستكمل عامه الثالث عشر أن يهادن أيامه باستسلام ما دام في الأفق متسع من الرعاية والاهتمام.

هذه حكاية الطفل (أ.ش) مع مركز أبوظبي للإيواء والرعاية الإنسانية – إيواء، إذ إن كلا الطرفين نسج حكاية مفعمة بالأمل وعدم الاستسلام في وجه المعاناة.

يتسم الطفل (أ.ش) بالكثير من الشجاعة و«الحكمة» ليبصر أيامه بعين الرضا ويتجاوز المصاعب التي واجهته بعين البصيرة ويحاول التخفيف من تداعيات واقعه الأسري المشتت ما بين أم مدمنة على الكحول وأب لم يكن قادراً على الارتقاء بوضع أسرته المعيشي ولا الاجتماعي.

إحدى اللوحات التي رسمها أ.ش وتحمل اسم «غروب»
إحدى اللوحات التي رسمها أ.ش وتحمل اسم «غروب»

منذ طفولته، عرف (أ.ش) بتفوقه ومثابرته على الدراسة، وحتى كان يتسم بذكاء اجتماعي ساعده في تكوين صداقات كثيرة ومتنوعة فأحبه الجميع، إلى جانب تمتعه بمواهب شتى بينها موهبة الرسم التي ساهمت، فيما بعد، في أن تكون عاملاً من عوامل علاجه وشفائه من واقعه المزري.

عاش ذاك الطفل في أسرة مفككة وعاش دوامة من عدم الاستقرار، حيث كانت مشاعره متضاربة بين الهروب من هذا الواقع والانزواء واختيار العزلة، أو محاولة إيجاد حل رغم عمره الصغير، أملاً في إنقاذ باقي إخوته والحفاظ على علاقته بهم.

فالوضع كان وفق الصورة التالية «أم مدمنة على شرب الكحول وخلافات دائمة بين الأبوين، ما أنتج بيئة غير مناسبة لتربيته وإخوته في ظل تفاقم الوضع المعيشي وعدم اهتمام بحالة المنزل الذي يعيشون فيه وبنظافته».

حكاية الطفل (أ. ش) مع "إيواء".. الأمل والرسم ينتصران على المعاناة

عدم الاستقرار الأسري وآثاره النفسية

وما زاد الطين بلة هو «إهمال الأهل إلحاق (أ.ش) وإخوته بسلك التعليم، إلى جانب عدم وجود من يقوم على رعاية الأطفال أو تقديم الطعام أو توفير الرعاية الصحية لهم».

لم يأبه ذاك الطفل بكل الظروف التي عاشها. حاول استكمال حياته والأهم الحفاظ على علاقته بإخوته مع معانقة الأمل بمستقبل أفضل ولو بعد حين، بيد أن الضغوط المحيطة من عدم استقرار أسري، إدمان الأم وبعض تقاعس من الأب، تركت أثرها على واقعه النفسي والاجتماعي والصحي.

وجد الطفل يداً تنتشله من واقعه الصعب واستطاع «إيواء» أن يفتح أبواب الأمل أمامه ويعيد النبض إلى قلبه الصغير

ونظراً للإهمال والضغوط والاضطرابات النفسية الناجمة عن الظروف القائمة، أصبح الطفل منطوياً وخجولاً وقليل الكلام، كما أصيب بمشاكل في الأسنان أثرت في مظهره وثقته بنفسه، وبدا عليه شحوب الوجه والهزال وسوء التغذية.

عند هذا الوضع، تحرك الأب وأراد فتح صفحة جديدة من حياة أبنائه ولو متأخراً. بادر بفتح باب التواصل مع مركز أبوظبي للإيواء والرعاية الإنسانية – إيواء، التابع لدائرة تنمية المجتمع، خوفاً على أبنائه ولرفد حياته بأمل إعادة بناء أسرة خارج سياق اللا استقرار.

شرح الوضع للأخصائيين وحاول أن يجسد دوره كأب مسؤول همه الأول والأخير رعاية طفله والاعتناء به على الصعيدين النفسي والاجتماعي لمساعدته على تجاوز محنته.

استلم أحد دور الإيواء التابعة لمركز أبوظبي للإيواء والرعاية الإنسانية – إيواء، الطفل وباشر بتقديم خدمات الرعاية والتأهيل والتمكين له لضمان تنشئته في محيط سوي. فكانت البداية بإخضاعه للفحوص الدورية كونه يعاني شحوباً وهزالاً، فرافقته مشرفته لدى الطب العام والباطنية، وأظهرت النتائج الطبية أنه يعاني نقصاً في الفيتامينات، وقدم له المركز العلاج المطلوب إلى أن استقر وضعه الصحي بعد نحو ثلاثة أشهر، ما جعله أكثر نشاطاً وإقبالاً على المشاركة في الأنشطة اليومية التي يقيمها المركز للأطفال، وهذا ما بلور النتائج الأولى لإعادة إدماجه مجتمعياً ونفسياً مع محيطه.

الاهتمام بالصحة وممارسة الأنشطة

لم تنته الجهود عند هذا الحد، فعلاج أسنانه كان الهدف الأبرز في سياق تأهيله وتحسن حالته النفسية، فاستكملت روزنامة الاهتمام بصحته بعلاج أسنانه، ما رفع ثقته بنفسه عند الاختلاط بالآخرين وتعزيز تواصله مع محيطه بشكل أفضل.

وفي هذا السياق، شكلت الأنشطة التي يقيمها المركز أحد منافذ مشاركة (أ.ش) وإعادة بناء «نفسيته»، إذا صح التعبير، حيث تم إشراكه في بعض الورش الاجتماعية الداخلية التي تهدف إلى تطوير المهارات الحياتية، كما شارك في الرحلات الترفيهية الخارجية والأنشطة الترفيهية الداخلية. وعلى سبيل المثال، ألحقه المركز في أكاديمية لكرة القدم، فأثبت تميزه وحصل على المركز الأول في عدد من المسابقات.

ولم يغب عن المركز دور الأسرة ومدى تماس هذا الطفل مع أسرته وحرصه على علاقته مع إخوته، فكانت الأنشطة وسيلة تواصل اتخذها المركز لتحسين علاقة (أ.ش) بإخوته ليشعروا بالاحتواء والاهتمام وليبقى التواصل مع الأسرة قائماً، لكون هذا التماس له آثاره النفسية الإيجابية في إحياء مشاعر الألفة داخل قلب ذاك الطفل وإعادة إحياء أمله بالعيش في أجواء مستقرة.

لوحة «القرم» التي رسمها داخل المركز
لوحة «القرم» التي رسمها داخل المركز

مهارة الرسم لدى (أ.ش)

وكان مستقبل هذا الطفل الأكاديمي والمهني ضمن اهتمامات المركز، إذ تم إلحاقه بالمدرسة وتكليف معلمة خاصة برفع مستواه الدراسي، فأبدى تفوقه ونجاحه والتزامه بالحضور، وتبلورت مع الوقت لديه مهارة الرسم عبر مشاركته في الأنشطة المتنوعة ورسم عدداً من اللوحات الفنية الجميلة المفعمة بالألوان التي تجسد بعضاً من ملامح تراثية في الدولة، وإن كانت تعابيرها تبلور بعض «سواد» اللحظات التي عاشها.

في لوحته عن الغروب، مزج الألوان بطريقة هادئة. عكس بعض ما بقلبه وأطلق ريشته في عوالم الأمل، وفي لوحته عن الصبار، أراد أن يوصل رسالة أمل مستوحاة من قدرة الصبار على العيش في الصحراء وتحمل شح المياه والنمو في هذه الأجواء. رسم الشمس وبلور ألواناً متخمة بالحب والتفاصيل المبهجة.

لوحة «صحراء»
لوحة «صحراء»

هواية الرسم كانت أشبه بعلاج نفسي أخرجت هواجس ذاك الطفل ومخاوفه إلى جانب مساهمة جلسات الإرشاد والدعم النفسي الفردية التي قدمت له داخل المركز لإكسابه مهارات حب الذات والذكاء العاطفي وإدارة الغضب وتنظيم المشاعر وحل المشكلات واستراتيجيات التفكير الإيجابي وتعديل السلوك ورفع الدافعية نحو التعلم والتخطيط للمستقبل، مع تقييم ومتابعة استقراره النفسي من قبل الاختصاصية النفسية والطبيب النفسي. وبمرور الوقت، تطور الجانب الاجتماعي والنفسي لديه وبادر إلى تكوين صداقات وكان الطفل المحبوب من جميع الأطفال في دار الإيواء.

ولكن ما نفع كل هذه الجهود في حال عاد الطفل إلى أحضان أسرة مفككة وغير مستقرة؟

هذه الجهود تكاملت مع جهد على صعيد الأبوين، حيث تواصل المركز معهما وأشركهما في جلسات إرشادية وتوعوية عن التربية الإيجابية، وتمت إعادة دمج الأطفال مع الأب تدريجياً من خلال الخروج معه في نهاية كل أسبوع، وإجراء مكالمات أسبوعية للتواصل مع والديه لتعزيز شعور الأمان والود بين أفراد الأسرة، مع تقديم الإرشاد للوالد بشأن التربية الصحيحة للأبناء وخطة رعاية الطفل بعد الخروج، وتشجيع الأم على العلاج من الإدمان.

حكاية الطفل (أ. ش) مع "إيواء".. الأمل والرسم ينتصران على المعاناة

لم تنته فصول الحكاية بل كانت البداية، باستمرار المركز في العمل والسعي إلى استدامة هذا الوضع الجديد عبر العمل على توفير بيئة مستقرة نفسياً واجتماعياً، حيث تولى المركز زيارة منزل الطفل والتواصل مع الجهات المعنية لضمان عودته إلى مسكن ملائم وآمن.

عاد (أ.ش) ليعيش مع أسرته، وعودته كانت بصيص أمل أضاءت ذاكرة ذاك الطفل بالقدرة على تجاوز آلامه وجعلها جسراً للارتقاء إلى وضع أفضل وأجمل وأكثر بياضاً. المركز ما زال يتابعه ولم يوقف رحلته مع (أ.ش) بل هو مستمر بمتابعة أوضاعه المعيشية مع إخوته لمساعدته على استكمال مسيرته بخطى واثقة.

فلا يمكن لطفولة عاشت التصدع الأسري أن تخرج من تداعيات الألم دون رعاية ودون يد ترافق مسارها نحو آفاق مضيئة وجديدة ونحو عوالم أكثر عدلاً.

 

مقالات ذات صلة